عند بدايات سنوات الثمانين من القرن الفائت، لم يكن ثمة في بيئة السينما المصرية ما يوحي بأن هناك تياراً سينمائياً يولد لتوه على أنقاض ما كان سمي في ذلك الحين ب «سينما الانفتاح»، وكذلك على انقاض تلك السينمات المتهافتة التي كان أول ما يهمها شباك التذاكر ورضى جمهور عريض كانت قد تمت أقلمته مع أوضاع سياسية متجددة تتراوح بين اليأس والتغريب عن قضاياه الحقيقية، بل حتى عن ذائقته الفنية الواعية التي كانت تراكمت بفضل سنوات طويلة من زهو سمي في ذلك الحين، المد القومي. وكان ذلك هو المد الذي أتت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 لتنسفه من أساسه، رامية أفكاره في مهب النسيان، وجمهوره «العريض» في وهاد اليأس. ومع هذا كله، ومن دون سابق إنذار تقريباً ولد ذلك التيار الذي، حتى وإن لم يعمّر كثيراً، كان ذا أثر كبير في تجديد سينمائي مصري مدهش. وطبعاً من الصعب اليوم تحديد الفيلم الذي شكل البداية، ولا كذلك الفيلم الذي شهد بداية الاضمحلال. وهذا هو دائماً، قدر التيارات الفنية والفكرية في شكل عام. المهم في الأمر أن ذلك التيار، والذي سيسمى ب «الواقعية الجديدة»، كانت له أسماء/ علامات، وكان له مبدعون محددون، نذكر منهم على سبيل المثال علي بدرخان والراحل عاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وداود عبد السيد بين آخرين. أما العلامات فكانت نحو دزينتين من أفلام سيكون من أبرزها «سواق الأوتوبيس» لعاطف الطيب، من كتابة محمد خان. لم يكن «سواق الأوتوبيس» لا فيلم البداية ولا فيلم النهاية. لكنه كان - ويبقى - الأبرز في سلسلة كشفت كم أن أولئك المبدعين، الشبان في ذلك الحين، يمثلون امتداداً لبعض أجمل ما عرفته السينما المصرية في تاريخها: من أفلام صلاح أبو سيف، الى أفلام يوسف شاهين مروراً بأعمال بركات وتوفيق صالح وكمال سليم وغيرهم. لكنهم - وكان هذا نقطة تسجل لمصلحتهم - لم تتسم أفلام بصرامة «الآباء المؤسسين»، بل راحت تنهل مما هو جديد في السينما العالمية. وكان من حظها أن يتطابق زمن ظهورها مع زمن ظهور جديد، مدهش هو الآخر، في السينما الأميركية على أيدي فرانسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي وبول شرايدر وغيرهم. ومن هنا كان ممكناً لكاتب هذه السطور حين كتب، بالفرنسية، دراسة حول ذلك التيار المصري الجديد، عرّفت به في أوروبا، أن يسميه تيار «أبناء صلاح أبو سيف والكوكاكولا». لكن ليس هذا هو المهم في الموضوع. موضوعنا هنا هو، إذاً، الفيلم الأبرز: «سواق الأوتوبيس»، الذي حققه عاطف الطيب عن قصة وسيناريو كتبهما محمد خان وبشير الديك. وهذا الفيلم كان الأبرز، لأسباب عدة، ليس أقلها قدرته على التصدي لموضوعه بقوة النقد الاجتماعي، هو الذي كان همه الأساس أن يرصد الجديد الذي طرأ على مصر والمصريين خلال الزمن الفاصل بين وقوع هزيمة حزيران، وبداية ما سيسمى ب «عودة الديموقراطية»، أي تحديداً تلك السنوات التي تبدلت فيها مصر، اقتصادياً واجتماعياً وذهنياً أيضاً. غير أن هذا لم يكن كل شيء في هذا الفيلم، لأن هذا الأخير لم يسع لأن يكون مرافعة أكاديمية في علم الاجتماع أو علم الاقتصاد، بل كان همه الأساس أن يكون عملاً فنياً. من هنا نرى «سواق الأوتوبيس»، وقد سعى - بطريقة ناجحة - الى أن يقدم توليفة تجمع بين السينما التي تفكر، والسينما التي يقبل عليها جمهور عريض ليتمتع. ولقد أمّن هذا العنصر الأخير وجود «نجوم» من الصف الأول في لعب أدوار الفيلم (نور الشريف وميرفت أمين ومحمود المليجي بين آخرين)، كما أمنه السيناريو السردي الخطّي، الذي لم يسع الى أية بهرجات شكلية لغوية، ناهيك بإخراج بسيط سعى أول ما سعى الى نقل السيناريو الى الشاشة بأشكال مقنعة حازمة، أنيقة... على عكس ما كان يفعل، في ذلك الحين وقبله، نوع من السينما التجديدية كان يغوص في ألعاب شكلية لغوية تبعد الجمهور جاعلة من الفيلم طلسماً غامضاً... منفراً. بالنسبة الى عاطف الطيب، وزميليه خان والديك، كان الهم الأساس إيصال مجموعة من الصور والمواقف الاجتماعية، إنما بلغة بصرية هادئة وممتعة، للوصول في النهاية الى خاتمة تقول كل الغضب الذي يعتمل في النفوس إزاء ما يحدث في مصر. ومن هنا جاء مشهد النهاية قوياً ومدهشاً، كما كان وسيحدث دائماً في أفلام هذا النوع من السينما: حدث ذلك بعد أن أخفق بطل الفيلم في مسعاه لإنقاذ ورشة النجارة التي يملكها أبوه ومهددة الآن بالزوال. إزاء ذلك الإخفاق وإذ يرى حسن، سائق الأوتوبيس، أن الإنقاذ مستحيل، يندفع وراء نشال يرصده وهو يحاول سرقة راكب في الأوتوبيس لينهال عليه ضرباً صارخاً به «يا أولاد الكلب». المفارقة، وقوة المشهد، هنا، ويكمنان في أن حسن نفسه، أول الفيلم، كان قد غض طرفه عن النشال حين رصده يسرق. فما الذي حدث بين أول الفيلم وآخره، حتى تبدل موقف حسن؟ في بساطة، حدث التالي: حسن الذي يعيش بالكاد عيشاً متوسطاً وهو يكد ليلاً ونهاراً، سائقاً الأوتوبيس صباحاً، وتاكسي خاصاً به مساء، كي يؤمن متطلبات بيته وزوجته، يكتشف ذات يوم أن ورشة النجارة التي يملكها أبوه مهددة بالزوال، لأن الأب تخلف عن دفع الضرائب طوال سنوات كثيرة. انه هو، حسن، لا يمتلك هذا المبلغ لإنقاذ أبيه، الراغب في إنقاذه حتى وإن كان يعرف في قرارة نفسه أن المسألة كلها بلا جدوى، فلا الأب قادر، بعد على العمل، ولا الورشة تدر مالاً... المسألة مسألة عاطفية، لأن المشاريع الصغيرة، مثل مشروع أبيه هذا، ما عاد لها مكان في زمن المكننة والانفتاح الاقتصادي والسمك الكبير الذي يأكل السمك الصغير. حسن، على رغم إدراكه هذا، يتناساه تماماً ويسد أذنيه عن واقعية ما تقوله له زوجته في هذا المجال، ليقوم بجولة لدى إخوته سعياً لجمع المبلغ. ومن خلال هذه الجولة التي تأتي نتائجها متناقضة، يضعنا الفيلم على تماس مباشر مع التغيرات الذهنية المعتملة في المجتمع المصري. أما المشكلة الأساس هنا، والمسكوت عنها الى حد كبير، إلا من زوجة حسن، التي ترفض أن يبيع سيارة التاكسي - التي دفعت هي ثمنها - لإنقاذ ورشة أبيه، المشكلة الأساس هي أن ما يسعى إليه حسن يبدو غير عقلاني... أي غير واقعي اقتصادياً، فهو - كما سنكتشف بالتدريج - يبحث عن القيم، أكثر من بحثه عن إنقاذ ورشة لا جدوى من إنقاذها. إنه شخص ينتمي الى عالم بات قديماً، يحاول أن يجابه عالماً جديداً لا مكان فيه لأمثاله، وليس فقط لأمثال أبيه. حسن إذ يسعى الى جمع المال لإنقاذ الورشة، مطلّقاً زوجته في سبيل ذلك، دافعاً اخته الصغرى للزواج من ثري عجوز، ومشتبكاً مع بقية إخواته اللواتي يرفضن «حلمه وحلم أبيه الجنوني»، مرغماً أصدقاءه على المساهمة في تدبير المبلغ، ناسفاً أحلامه الفردية الخاصة بدورها. حسن هذا لا يبدو، هو نفسه، مقتنعاً منذ البداية بصواب ما يفعل. لكن شيئاً في داخله، شيئاً غير منطقي يدفعه لمجابهة التيار، دافعاً إيانا، نحن الجمهور، الى التعاطف معه ومع مسعاه. ونعرف أن حسن في النهاية يتمكن من جمع المبلغ، ولكن بعد أن ضحى بأشياء كثيرة. ومع هذا فإن كل هذه التضحية لم تجد نفعاً. فالواقع أقوى من الأحلام. هذا ما يقوله الفيلم بكل هدوء، من دون أن يحدد لنا ما إذا كان، أصلاً، يدعونا الى اليأس أو الى المقاومة. الفيلم يكتفي هنا بوضع «ما يجرى في مصر» أمام أنظارنا، تاركاً لنا تحديد الخطوة المقبلة! كان «سواق الأوتوبيس» ويبقى واحداً من أقوى أفلام نهايات القرن العشرين في السينما المصرية. وهو أيضاً واحد من أقوى ما حققه الراحل عاطف الطيب ( - ) الذي توفي وهو في عز عطائه، بعد أن قدم للسينما المصرية عدداً كبيراً من الأفلام التي تظل شاهدة على قوى وتأثير تيار سينمائي، كان هو واحداً من أبرز صانعيه. وإذا استثنينا فيلم عاطف الطيب الأول «الغيرة القاتلة» المقتبس بتصرف عن شكسبير، يمكننا القول إن عاطف الطيب كان واحداً من قلة من أبناء جيله، لم تعرف سينماه التراجع ولا المساومة، تشهد على هذا أفلام له مثل «التخشيبة» و «كشف المستور» و «دماء على الإسفلت» و «البريء» و «الهروب» وغيرها من أعمال تقول لنا كم أن رحيل عاطف الطيب باكراً، كان خسارة للسينما المصرية. [email protected]