الارجح ان يُذكر العقد الأول من القرن ال21 علمياً باعتبار أنه أرهص ل «الإنقلاب الكبير» (بالاستئذان من قاموس رديء في السياسة)، في مشهد الطاقة عالمياً. وربما شهد ابتكارات مذهلة في مجال الطاقة، بما لا يقل عن الانجازات العلمية الهائلة التي شهدها العقد عينه، في حقول أخرى. ويشير «الإنقلاب الكبير» الى لحظة الانتقال نوعياً من مصدر للطاقة الى آخر. ويرى البعض (ربما كان محقاً) أن مثل ذلك الإنقلاب لن يحدث قبل قرن. ربما يلزم مئة عام كي ينقلب مشهد الطاقة عالمياً، فيبتعد عن الوقود الاحفوري، خصوصاً النفط والفحم الحجري. لكن مئة عام ليست زمناً كثيراً كمسار يؤدي إلى إحداث تغيير جذري في أساس الطاقة، أي المادة التي يستعملها البشر كمصدر أساسي لها. لنتذكّر أن مادة الطاقة ومصادرها الأساسية، تغيّرت دوماً على مرّ الزمن. فحتى نهاية القرن الثامن عشر، اعتمدت حضارة الإنسان على مصادر متجدّدة للطاقة: الماء، الهواء، الحيوان، الانسان والخشب ومشتقاته. ومع بداية القرن التاسع عشر، حين كان عدد سكان الأرض يزيد قليلاً على البليون، انتقل البشر الى الفحم الحجري، وهو مصدر قابل للاستنفاد. ومع بداية القرن العشرين، انتقلت البشرية الى الاعتماد على النفط ومشتقاته كأساس للطاقة، مع الاستمرار في الاستعمال الكثيف للفحم الحجري، إضافة الى الطاقة النووية السلمية. منذ بداية العقد الأول من القرن الحالي، تتصاعد الجهود لنقل البشر الى أنواع أخرى من الطاقة، تُجمع تحت اسم «الطاقة النظيفة»، على رغم أنها ليست كذلك كلها. ومن الممكن النظر الى عقد أول مؤتمر علمي عالمي للطاقة الهيدروجين Hydrogen Energy في ميونيخ عام 2000، كإشارة الى ذلك الميل، خصوصاً انه شهد مشاركة مكثّفة من شركات صناعة السيارت، كما شهد عرض أول سيارة تعمل بالهيدروجين السائل. اختتم العقد عينه بفشل مؤتمر كوبنهاغن «كوب 15» عن المناخ، الذي يسود اعتقاد بإن اضطرابه متصل بالاعتماد على الوقود الاحفوري Fossil Fuel. وعلى رغم الفشل فإن الميل الى الخروج من الاعتماد على النفط في تصاعد. شهد العقد نفسه ولادة المصابيح المنزلية الخفيضة الاستهلاك، التي وصلت الى خُطب الرئيس باراك أوباما، ما يشير الى أهميتها. وتحوّلت السيارة الهجينة من مشروع علمي الى جزء أساسي من إنتاج السيارات، بحيث يصعب إيجاد شركة كبرى في تلك الصناعة غير منخرطة فعلياً في الانتاج التجاري الموسّع لتلك السيارات. بل شهدت نهاية العقد عينه تنافساً بين تلك الشركات في السيارات الهجينة Hybrid Cars، شمل «تويوتا» و «هوندا» و «رينو» و «مرسيدس» وغيرها. كهرباء «ليد» وولدت في هذا العقد طاقة كهربائية من نوع جديد، ربما أحدثت ثورة هائلة في السنوات القليلة المقبلة: إنها كهرباء ال «ليد» LED، والتي اشتق منها نوع عضوي يعرف باسم «أوليد» OLED. تنتشر هذه الكهرباء بقوة في الصناعات الالكترونية، خصوصاً الكومبيوتر والخليوي والتلفزيون والراديو. وتستعمل بكثافة في مصابيح الإنارة اليدوية والمنزلية. وتتميّز بانخفاض ما تستهلكه من الطاقة. وثمة دول غربية عدّة قررت اعتمادها في إنارة الشوراع وأنفاق المترو وغيرها. وعرف العقد الأول من القرن ال21 عودة قوية للطاقة النووية، بعد أن ساد رفض كبير لها في القرن الماضي. وظهر الجيل الرابع من المفاعلات النووية، الذي يفترض أنه أكثر آمناً من الأجيال السابقة. وعادت دول مثل البرازيل والأرجنتين الى مشاريعها النووية، بعد طول استنكاف. وجرجر الملف النووي الإيراني نفسه عبر النصف الأخير من هذا العقد. وتكاثرت الاتفاقات عن الطاقة النووية بين بلدان تمتلك تقنياتها وعلومها (الغرب والبرازيل والارجنتين...) وبين دول تفتقر الى تلك المعرفة، مثل الدول العربية. ما لا يقال عن الطاقة النووية كثيراً هو أنها تؤسس لمشروع عملاق قد يهزّ مشهد الطاقة عالمياً، إن قُدّر له التحقّق، وهو «مفاعل أيتر» ITAR الذي يحاول تقليد ما يحصل في قلب الشمس، ويعطيها قوّتها وحرارتها وطاقتها، في مفاعل يستقر على الأراضي الأوروبية، غير بعيد من «مُصادم هادرون الكبير» الممتد على أقدام هضبة جبال الألب. إن قُدّر لمشروع «أيتر» النجاح، فسيتطيع مفاعل مُفرد ان يمد القارة الأوروبية بكل ما تحتاجه من الكهرباء في الاستخدامين الحضري والصناعي، ما يُشكّل ثلثي حاجاتها من الطاقة! وفي السنة الأخيرة من العقد عينه، ظهر مشروع عملاق في الطاقة الشمسية، هو «ديزتيك» Desertec الذي يفترض ان يمد أوروبا بسدس ما تحتاجه من كهرباء، إنطلاقاً من ألواح للطاقة الشمسية في 4 دول عربية في شمال أفريقيا. وظهرت أيضاً أنواع متطوّرة من الألواح الشمسية، بالاعتماد على علوم النانوتكنولوجي، بحيث يمكن «خلطها» مع نسيج القماش أو مع طلاء الجدران! وكذلك استطاعت طاقة الرياح أن تثبت أقدامها، بحيث انها صارت جزءاً أساسياً من الطاقة في بلدان اسكندنافية عدّة، ووقعت أميركا مع كندا على أحد أضخم مشاريعها تاريخياً، ورسم الاتحاد الأوروبي أطالس للرياح في بلدانه وجوارها، خصوصاً بلدان المتوسط. لكن شيئاً لن يبدل مشهد الطاقة سريعاً أكثر من التطوّر في خلايا الوقود Fuel Cells التي شهد العقد الأول من القرن العشرين إنطلاقتها الى التطبيق العملاني المباشر والواسع. ظهرت الأجهزة الإلكترونية الأولى التي تعمل ببطاريات الوقود، خصوصاً الكومبيوتر والخليوي. تتوافق تلك الخلايا (أو البطاريات) مع صعود الغاز المسال في مشهد الطاقة، وتعمل على الميثانول أيضاً، بمعنى انها تعمل بالوقود الغني بالهيدروجين. وتكمن ميزتها الأساسية في أنها تعطي طاقة كهربائية كبيرة باستعمال كميات شديدة الضآلة من الوقود. وثمة نماذج في المختبرات، تستطيع ان تتعامل مع أي نوع من الوقود، وأخرى يمكنها ان تخزّن كميات كبيرة من الطاقة، فتصلح مخزناً للأنواع «المتقلّبة» من الطاقة مثل ما يأتي من الشمس والرياح وحركة الأمواج والمدّ وغيرها. وأما المزيج بينها وبين المنتجات المعتمدة على تقنية «ليد» في الكهرباء، فإنه يعد بالقفز في الاستهلاك الخفيض من الوقود الى مستويات خيالية! وربما حدث هذا الأمر خلال العقد الثاني من القرن الجاري. خطة عربية لقرن «قصير» علمياً يسود إتفاق حول أهمية بطاريات الوقود، التي تنتج باستخدام الماء أساساً، على عكس الحال بالنسبة لإبتكار آخر في الطاقة. فقبيل نهاية العقد الأول من القرن ال21، حاولت الشركات الكبرى الترويج ل «الوقود الحيوي» Bio-Fuel باعتباره وقوداً نظيفاً! لا شيء أبعد من الحقيقة من هذا الوصف. فليس في صناعته ولا في مخلفاته ما يؤهله لها. ولأنه يعتمد على استخراج السكر من النباتات والثمار، ثم تحويله الى نوع من الكحول، فقد ساهم في أزمة الغذاء لأن المحاصيل التي تحتوي على تركيز كبير من النشاء أو السكر، غالباً ما تشكّل مصدراً لغذاء البشر والحيوانات أيضاً. وتحاول بعض الشركات، بعد الصرخة الكبرى التي سادت عالماً فيه بليون جائع، أن تروّج ذلك الوقود تحت أشكال آخرى، مثل تلك التي تُشتق من مخلفات المحاصيل، وليس المحاصيل عينها. ويعني ذلك استعمال قش قصب السكر ولحائه، بدل القصب نفسه. ولكن الخشية من الضرر الهائل الذي يلحقه بالزراعات الأساسية التي تشكل أساس غذاء البشر ما زال قائماً. وأقل ما يقال في الوقود الحيوي أنه موضع خلاف ومثار جدل غير محسوم. ويزيد في حدّة النقاش انه يستلزم كميات كبيرة من الطاقة في إنتاجه (تأتي من الوقود الاحفوري في الغالب)، ويولّد الكثير من النفايات، ويعطي الكثير من غازات التلوّث عند إحراقه، ما يعني أنه ربما فاقم مشكلة الاحتباس الحراري والتلوّث. في ظل اللوحة السابقة، يصعب تفادي السؤال عما يحمله المستقبل للعرب، خصوصاً ان النفط ما زال المصدر الأساسي لثرواتهم. لا إجابة مباشرة عن هذا السؤال، ولكن، يثير القلق ميل البعض للإغفاء على وسادة مخادعة من الاحساس بأن زمناً طويلاً يفصل البشر عن زمن هجران النفط. تكراراً، مئة عام ليس زمناً مديداً. لنتأمل. ما الذي يملكه العرب ويسيطرون عليه علمياً وتقنياً من المصادر البديلة للطاقة؟ ما مدى اهتمامهم فعلياً بمسألة «نقل التكنولوجيا» وهي التي أصرّت عليها دول مثل الهند والصين الى حدّ ساهم في تفجير مؤتمر كوبنهاغن؟ يدور الحديث هنا عن النواة الصلبة للتكنولوجيا، وليس مجرد أدواتها ووسائطها العملانية. مثلاً، ما مدى تمكّن العرب من التقنيات العميقة في صناعة ألواح تحويل الضوء الى كهرباء، من السيليكون المتوافر في رمالهم، إن أرادوا فعلياً مواكبة الانتقال الى الطاقة الشمسية؟ (نفتح قوساً للقول ان الألياف الضوئية للإنترنت وشرائح الرقاقات الإلكترونية تصنع من السيليكون أيضاً، فما هي قدرات العرب في هذا الأمر)؟ وماذا عن الطاقة النووية؟ يتيح النظام السياسي العالمي للدول الحصول على الطاقة الذرية للاستخدام السلمي، بما في ذلك التخفيض المنخفض لليورانيوم. ولحد الآن، لم تظهر مطالبة عربية بالحصول على تقنية التخصيب السلمي للذرة. هل ستكتفي الدول العربية بمفاعلات لا تملك علوماً كافية لتشغيلها، وبالتالي تتحوّل الى دول معتمدة على مصدر خارجي للطاقة (قضبان اليورانيوم المخصّب)، بعد أزمنة من كونها دولاً مُصدّرة للطاقة؟ والى أين يسير الأمر في هذه الحال؟ ربما جرّ ذلك سؤالاً عن أشياء أكثر بديهية، مثل تكرير النفط والحصول على مشتقاته كافة، بداية من البنزين والديزل ووصولاً الى النايلون والبلاستيك. وكذلك الحال بالنسبة الى الصناعات المرتكزة على تلك المشتقات، التي تشمل صناعة الأدوية واللدائن. ربما لم يكن النفط كله نعمة، لكنه أعطى العرب ثروات هائلة. لا يكفي النظر الى السنوات وعّدها. الأرجح انه لا يوجد كثير من الوقت الفائض لحل تلك المعضلات، خصوصاً من الناحية العلمية والتكنولوجية. وهكذا، فإن العمل كثير لكن الفَعَلَة قليلون. والأرجح ان الزمن لا يعمل إلا لمصلحة من يخطط للاستفادة من كل ثوانيه، وصولاً الى أيامه وسنواته وعقوده، ثم يُنفّذ ما خطط ودبّر. [email protected]