فقد العالم الإسلامي نجماً من نجوم السياسة والفكر الإسلامي والثقافة والقانون والأدب واللغة، هو الدكتور عبدالهادي بوطالب، المدير العام السابق والمؤسس للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، ومستشار العاهل المغربي الملك الحسن الثاني، وصاحب الحقائب الوزارية المتعددة في الحكومات المتعاقبة منذ الحكومة الأولى بعد الاستقلال في 1955، بعد عمر ناهز السادسة والثمانين، قضى سبعة عقود منه في خدمة وطنه، والدفاع عن حقه في الحياة الحرة الكريمة، والذود عن قيمه ومقوماته وخصوصياته الروحية والثقافية والحضارية. ويعود اتصالي عن قرب بالدكتور عبدالهادي بوطالب، إلى أيلول (سبتمبر) 1985، حين عيَّنني المجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) مديراً عاماً مساعداً في الثقافة، وهو الموقع الذي عملت فيه معه، ورافقته من خلاله، ستَّ سنوات وشهرين، إلى أن انتخبني المؤتمر العام الرابع للمنظمة، خلفاً له في منصب المدير العام، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1991. وكنت قبل هذه الفترة، أعرف الأستاذ الفاضل معرفةَ طالب علمٍ يتابع نشاط شخصيةٍ ثقافية وسياسية ذاتِ حضورٍ مشع في الساحتين العربية الإسلامية والدولية؛ أقرأ بعض ما ينشره في الصحافة، وأطالع ما يصل إلى يديَّ من مؤلفاته. فانطبعت له في نفسي عن بعد، صورةُ رجل دولة متميّز، ومفكرٍ ثاقب الفكر حصيف العقل، ومثقفٍ يعتزُّ بالانتماء إلى ثقافة أمته، ويدافع عن مصالحها، ويقف من أجل ذلك المواقفَ التي تُحسب له. وكانت تلك هي الصورة المشرقة لهذا الأستاذ الجليل التي يعرفها عنه إخوانه في المغرب والمشرق، والتي تجعله في الطليعة من رجالات العرب والمسلمين الذي يعملون في ساحات العمل العام، من أجل خدمة الأمة، والذود عن حياضها، وإثبات حضورها في المحافل الدولية والمنتديات العربية الإسلامية. ولما اقتربت منه، وارتبطت به وظيفياً وإنسانياً، وعملت مساعداً له، وجدت أصل الصورة أشدَّ وضوحاً وأكثر إشراقاً؛ إذ ألفيتني أمام شخصية ذات جاذبية نافذة، لها حضورٌ مؤثّر، وإشعاعٌ لامع، فما لبثت أن زاد إعجابي به وتقديري له. لقد شرفت بالعمل مع هذه الشخصية الفذة فترةً من العمر هي من أجمل مراحل حياتي العملية. وأعترف بأنِّي أفدتُ من ثقافة الأستاذ الجليل وخبرته وحنكته في التعامل مع قضايا العمل الإسلامي الثقافي والتربوي والعلمي، وواكبته في مجالات رحبة، كان يرتادها، إلى أن استلمت منه الراية، وَوَاصَلْتُ العملَ الذي شرفتني الدول الأعضاء حين اختارتني للقيام به. لقد جمع الدكتور عبدالهادي بوطالب بين الثقافة العميقة المتشعبة التي يَتَكامَلُ فيها الأصيل والجديد، وبين الخبرة الواسعة الغنية في ميادين العمل العام والإدارة، وبين المعرفة الدقيقة بأوضاع العالم وبأحوال الأمة العربية الإسلامية، فاكتسب بهذه المعارف والخبرات والتجارب سعةَ الأفق، وعمقَ الرؤية، مع رجاحة العقل. وقد ساعدته هذه الملكات والمواهب التي حباه اللَّه بها، في النهوض بالمهمات الكثيرة التي أُنيطت به، وكنت شاهداً على إحداها، وهي مهمة جليلة القدر قدم من خلالها للعالم الإسلامي من الخدمات والإنجازات ما بوَّأه مقاماً رفيعاً بين القيادات السياسية والثقافية والنخب الفكرية والعلمية، على صعيد الوطن العربي والعالم الإسلامي. وتتجلَّى في شخصية الدكتور عبدالهادي بوطالب شجاعة الرأي وقوَّة الإرادة التي برزت في مواقف عدة. وقد عشت معه فتراتٍ عصيبةً مرَّ بها العالم العربي الإسلامي، كانت تتطلب اتخاذ قرارات حكيمة والإعلان عن مواقف متوازنة، فكان في هذه الأحوال على مستوى عالٍ من رباطة الجأش، والتبصّر، والتصرّف المسؤول. ورافقتُه في بعض أسفاره لحضور المؤتمرات الدولية والإقليمية ولرئاسة الاجتماعات والندوات التي تنظمها (الإيسيسكو)، فأعجبتُ بحضوره المشرّف، وبتدخلاته التي تتسم بالموضوعية والدقة، وبمشاركته التي تكون ذات تأثير في توجيه المناقشات، وفي الردّ المقنع، وفي التفاعل مع القضايا، التي تطرح أثناء المداولات. وقد اكتشفت أثناء السفر مع الدكتور عبدالهادي بوطالب، جوانب في شخصيته تثير الإعجاب؛ فقد كان يملك روحاً مرحة، ويروي من ذاكرته الأشعار الجميلة والأمثال الحكيمة والطرف والمستملحات. وكانت بيني وبينه مساجلات شعرية في مناسبات عدة أرحنا بها أنفسنا في غمرة بعض المؤتمرات المملّة والمواقف المؤلمة. وشاهدته يدير الحوارات ويرأس الجلسات، يصول ويجول في تناول القضايا والموضوعات، بمقدرة فائقة تُثير الدهشة، وفي تدفق يحمل على الإعجاب. وكان يخرج دائماً من المؤتمرات والندوات التي يرأسها، وقد أدّى ما عليه من جهد وحصل على ما أراد من نتائج، ينال الاحترام من كلّ المشاركين حتى ممن يقف في الصف المعارض لرؤيته ولتوجّهه. وبعد انتهاء مهماته في (الإيسيسكو)، جمعني بالدكتور عبدالهادي بوطالب الكثير من المؤتمرات والندوات، وكنت أسعد دائماً باللقاء به في رحاب الفكر والعلم والثقافة، فكنت معه عضواً في مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي في عَمَّان، حيث كنا نلتقي في مؤتمراتها. كما كانت تجمعنا اهتمامات ثقافية وفكرية كثيرة. لقد كان ارتباطي بالدكتور عبدالهادي بوطالب ارتباط الأخ الصغير بأخيه الكبير، بل أقول ارتباط طالب علم ومعرفة بأستاذه العلامة، أو ارتباط المريد بشيخه. وقد حرصت بعد استلامي مسؤولية الإدارة العامة ل (الإيسيسكو)، على إقامة ندوة تكريمية كبرى لهذا المفكر الكبير، نظمناها في رحاب أكاديمية المملكة المغربية عام 1992، تقديراً لدوره في إنشاء المنظمة، وعرفاناً بفضله، وأصدرنا كتاباً جمع خطبه وكلماته. وفي الكلمة التي تشرفت بإلقائها أمام الأمير مولاي رشيد في حفل تدشين المقر الدائم الجديد ل (الإيسيسكو)، الذي أقيم تحت رعاية الملك محمد السادس، عام 2006، قلت ما يأتي: «لقد انطلقت المنظمة الإسلامية (إيسيسكو) منذ المؤتمر التأسيسي الذي عقد في فاس سنة 1982، وعلى رأس إدارتها عالم جليل ومفكر مقتدر وسياسي محنك، هو معالي الأخ الأستاذ عبدالهادي بوطالب، الذي وضع أسس العمل لها، وبذل كلّ جهد لتبدأ النهوض بمسؤولياتها، وحقّق لها إنجازات كبيرة وكثيرة، وقد شرفت بالعمل معه ست سنوات مديراً عاماً مساعداً في الثقافة، حتى تم انتخابي خلفاً له في منصب المدير العام في المؤتمر العام الرابع للمنظمة، المنعقد في الرباط في نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1991. وقد يسَّر اللَّه لنا الأسباب والوسائل، خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، لتحقيق إنجازات كثيرة، هي اليوم رصيدٌ يعزّز جهود التنمية الشاملة في الدول الأعضاء». إن ذكرياتي الجميلة مع الدكتور عبدالهادي بوطالب، كثيرة ومتنوعة لا يتسع المجال لذكرها، لكنها ستبقى راسخة في عقلي ووجداني، تجعلني أكرر الدعاء له بالمغفرة والرحمة كلما بدا جانبٌ منها، أو لاحت ومضةٌ من قبسها، ففقده خسارة للفكر النيّر والعمل المخلص والثقافة البانية. * المدير العام للمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو).