في مسرحية «مدرسة الديكتاتوريين» للألماني إريك كاستنر، تقول حسناء لصديقتها ذات لحظة ما معناه ان علينا أن نحافظ على رؤوسنا حين «يقوم الآخرون بصناعة التاريخ». ذلك انه حين يصنع هذا التاريخ، سلباً أو إيجاباً، فإن الأفراد، الناس، البسطاء، يكونون هم أول الضحايا. وما رواية الكاتب والمفكر الفرنسي أندريه مالرو «الشرط الانساني» سوى امثولة حول هذه الحقيقة، في غاية المرارة والقوة. كتب اندريه مالرو «الشرط الإنساني» في العام 1933 يوم كانت الثورة الصينية - وما صاحبها من حروب أهلية متعددة - على أشدّها، ويوم كانت أوروبا كلها غارقة في نوع من الفوضى بين صعود الفاشيات من ناحية، ومحاكمات موسكو والحرب الأهلية الإسبانية المقبلة، من ناحية أخرى. ومالرو كان في ذلك الحين واحداً من «رفاق الطريق» (وهو تعبير كان يصف مناصري الأحزاب الشيوعية، غير المنخرطين في العمل الحزبي المباشر)، غير أن واقعه هذا لم يدفعه الى تحويل روايته الكبيرة هذه الى عمل دعائي أيديولوجي. ولربما يكون قد ساعده على هذا انه لم يكتب الرواية التي بدت في نهاية الأمر وكأنها تحقيق صحافي ميداني، وهو مقيم في ميدان الثورة ومعاركها، بل كتبها وهو يعيش هادئاً مطمئناً في باريس، ما مكّنه، بالطبع، من أن يقلّب الأمور من وجوهها كافة، ويكتب شهادة قد تكون تقدمية ومناصرة للشيوعيين، لكنها في الوقت نفسه غير راغبة في تقديم أي تنازلات اليهم. ومن هنا جاءت رواية «الشرط الانساني» بحسب تعبير متناوليها بالنقد والتحليل «صورة للأفراد وهم يجابهون التاريخ بكل قسوته، كما يجابهون الأجهزة العسكرية والسياسية في الآن نفسه». وقبل أن نتحدث عن هذه الرواية وما تتضمنه، قد يكون من المفيد أن نشير الى ان مالرو كتبها بعدما استقى عشرات المعلومات ومئات التفاصيل من لدن صحافي شيوعي صديق له كان يعيش، في ذلك الحين، في الصين. وهذا الصحافي ويدعى ستيفلت (ويلقب ب «مارنغ») عاش الكثير من أحداث الثورة، لا سيما الأحداث التي عصفت بمدينة شانغهاي عام 1927، وتشكل عصب رواية مالرو. إذاً، مدينة شانغهاي في ذلك العام المضطرب بقوة من تاريخها، هي المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية. وفي الرواية يصف مالرو تلك المدينة بأنها «المدينة التي ينتظر فيها الغرب ما سيكون عليه مصير 400 مليون انسان، وربما مصيره هو أيضا». أما العام 1927، الذي جعل مالرو الأحداث تدور فيه، فهو العام الذي شهد انقلاب تشانغ كاي - تشيك على حلفائه الشيوعيين بعدما كان تحالف معهم في «النضال المشترك ضد الجنرالات الذين ارتبطوا بالغرب وأصبحوا تابعين له كلياً». أما مالرو، فإنه يرينا في الرواية، واستناداً الى أحداث التاريخ نفسه، كيف أن قادة الأممية (الشيوعية) الثالثة كانوا هم الذين قادوا بسطاء الشيوعيين المناضلين الى المجزرة عبر اتباعهم سياسة التبعية إزاء تشانغ كاي - تشيك... وقد حدث ذلك على رغم التنبيهات الكثيرة التي كان الكثير من القادة الشيوعيين قد أطلقوها. غير ان هذه الكارثة لم تمنع مالرو من أن يؤكد على لسان إحدى شخصيات روايته أن «الصينيين الذين أفاقوا بعد سبات دام ثلاثين قرناً، لن يخلدوا الى النوم بعد ذلك أبداً». ذلك ان ما حدث، وكما يفيدنا التاريخ وكما تفيدنا الرواية، هو أن النضال تواصل في الأرياف، بعد هزيمة أصحابه في المدن، وفي شانغهاي بخاصة. على ضوء هذه الخلفية التاريخية، رسم مالرو، إذاً، أحداث روايته... وهو رسمها بأسلوب صحافي واضح يوحي بأنه قد عاش الأحداث بنفسه، إذ غالباً ما تبدأ الفصول، أو حتى المقاطع، بتحديد تاريخ معيّن باليوم والساعة... أما المناخ العام للرواية، فهو مناخ التوتر الذي هيمن على شانغهاي «التي كانت تنام على ضفة النهر نوم الجائع القلق من جراء عجزه». وكان ذلك المناخ يهيمن على شخصيات الرواية المتحركة في مسعى منها للتأثير في مصير العالم كما في مصيرهم الشخصي. ومن هنا، فإن ما يحدث في الرواية، بحسب المؤرخين هو «ان الصين العتيقة تموت... الصين التي عرفها جيزور، الصيني المتعلم الذي صار شيوعياً، والصين التي عرفها فاريل، البورجوازي الفرنسي قاطن المدينة والذي يسعى مواطنوه الى إفلاسه»، ولكن في الوقت نفسه، فإن «الصين الجديدة تولد من رحم الفعل الثوري» حتى وإن كانت تولد «خاضعة لضرورة التاريخ، وتحت ربقة الآليات التاريخية الجبارة والقاسية والتي يمثلها معاً جيش تشانغ كاي - تشيك، والجهاز السياسي للأممية الشيوعية». ان الشخصيتين المحوريتين في رواية اندريه مالرو الكبيرة هذه هما المناضلان كيو وكاتوف... وهما معاً ربطا مصيرهما بالنضال الجماعي، ما يجعل من الصعب تحري الفرد أو رصده في حياتهما الخاصة... فأين هو الفرد إذاً؟ انه بالنسبة الى كيو أناه الآخر الذي يبرز من خلال الأخوة في الصراع، في المعركة، ليعبر عن مصيره وشرطه الانساني. بالنسبة إليه لا مكان لهذا الشرط إلا في العمل الجماعي... وهو راض بمثل هذه الحال، لا يطرح على نفسه أي أسئلة في صدده. فمن يتصدى إذاً، لهذه النزعة الجماعية التي تذيب الفرد في فعل يتخطاه؟ لا أحد سوى الإرهاب الذي يمارسه تشين الذي يرى أن فعله هذا، مهما كان دموياً وعنفياً، وربما لأنه كذلك، إنما هو خير احتجاج ضد الشرط الاستسلامي المذيب للفرد في الجماعة... والحال ان الصراعات الأساسية في هذه الرواية، إنما تدور بين هذه الشخصيات وتوجهاتها، حتى وإن كانت في نهاية الأمر تنتمي الى الصف الواحد، أكثر مما تدور بين القوى الكبرى. وهنا، على هذا النحو يأتي مالرو في «الشرط الانساني» ليعيد الاعتبار الى الفرد أمام مطحنة التاريخ... وهذا التوجه هو الذي ينتهي به الأمر الى تحويل الرواية من تحقيق صحافي ميداني ومن نص يحاول أن يقول التاريخ الكبير، الى عمل «شاعري تأملي وغنائي» يتحدث عن الروح وعن الفرد في ركام الدمار والأحداث الكبرى. وهكذا إذ يجعل مالرو من روايته هذه، رواية عن الثورة الصينية، فإنه في الوقت نفسه يحولها الى رواية عن الأفراد، عن القوى الحقيقية الفاعلة في الثورة، عن بسطاء شانغهاي الذين يظلون في الظل فيما تدور الأحداث الكبرى، إما بفضلهم، وإما لأنها تطحنهم... أما اهمية التاريخ بالنسبة الى اندريه مالرو هنا، فلا تتجاوز كونه العنصر الفاعل الذي يؤثر في هؤلاء الأفراد. وبالتالي، فإن عبقرية مالرو جعلت الرواية تبدو في نهاية الأمر أشبه بسلسلة من «المغامرات الفردية» التي منها يتألف التاريخ الحقيقي. ومن نافل القول هنا إن اندريه مالرو (1901 - 1976) بروايته هذه قد أثار حنق أصدقائه الشيوعيين، غير انهم تحفظوا في الهجوم عليه، في الوقت الذي كان هو يكتب روايته التالية «الأمل» عن الحرب الإسبانية. ومالرو يعتبر من كبار كتّاب فرنسا في القرن العشرين، وهو كان سينمائياً وروائياً وشاعراً وباحثاً في علم الجمال. وبعد مناصرته النقدية للشيوعيين، انضم الى ديغول بعد الحرب العالمية الثانية، ليصبح وزير ثقافة في حكوماته، حتى بداية السبعينات من القرن الماضي. [email protected]