أكد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في مقال خص به «الحياة» أهمية تسوية المشكلات التي يواجهها الشرق الأوسط سلمياً والأخذ في الاعتبار كل تشعباتها وتعقيداتها، مشيراً إلى ان تركيا توصلت الى أن المقاربة هذه هي الأنسب لضمان مصالحها الاستراتيجية، من خلال الحوار مع جميع الأطراف المعنيين. يشارف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على نهايته، ويبدو الوقت ملائماً للابتعاد قليلاً من الرتابة اليومية التي تفرضها الشؤون الدولية والنظر في المعالم الأساسية التي تحدّد النظام الدولي الناشئ الذي يتطوّر منذ التسعينات من القرن الماضي. وفيما لا تزال العولمة تسير بوتيرة سريعة للغاية بفضل بروز أحدث الابتكارات في العلوم والتكنولوجيا التي تسهّل حياة المرء وتجعل العالم مكاناً صغيراً على صعيد الترابط مع بعضه البعض وتشارُك المصالح، نواجه في المقابل عدداً من المشاكل الهائلة التي تتخطى التصنيفات الفئوية السهلة وتقاوم الحلول المنسّقة. توجد الأكثرية الساحقة من هذه المشاكل التي تؤثّر سلباً في السلام والأمن في العالم في البلدان المجاورة لتركيا. يعتبر هذا البلد المعرّض للعواقب السلبية المترتبة عن هذه المشاكل ونظراً لعلاقاته التاريخية والثقافية مع المنطقة أنه يضطلع بمسؤولية المساعدة على إنشاء جوّ يفضي إلى السلام والاستقرار والخير والتعاون في المناطق المحيطة به. بالتالي، ساهمت تركيا على نحو فاعل في فرض الأمن والاستقرار والازدهار في عدد كبير من البلدان. وتبدو هذه المساهمة واضحة للغاية في إطار جغرافي يمتدّ من البلقان والقوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود وشرق المتوسط والشرق الأوسط ومن الخليج إلى شمالي أفريقيا وأبعد من البلدان المجاورة لنا مباشرة. وفي السنوات الماضية، برزت تركيا على أنها باعث على الاستقرار. وتعزّز دورها هذا بفضل الإصلاحات الداخلية التي أجرتها وكفاءاتها الاقتصادية المتنامية. واعتمدت تركيا خمسة مبادئ أساسية على صعيد تطبيق سياستها الإقليمية. فالمبدأ الأول هو «الأمن للجميع». إن كنّا بحاجة إلى الأمن، فالآخرين بحاجة إليه أيضاً وإن كان الأمن مفيداً لبلد واحد، فهو كذلك بالنسبة إلى البلدان الأخرى أيضاً. يجب أن نحترم أمن الجميع وحريتهم. وينبغي ألا ننسى مسألة مهمّة مفادها أنه في حال شعر فاعل واحد في المنطقة بعدم الأمان، فلا يسع الآخرين أن يعيشوا بأمان. أما المبدأ الثاني فهو «الحوار السياسي الرفيع المستوى» الذي يفرض الالتزام مع الدول الفاعلة والفاعلين من غير الدول وتفادي الانحياز إلى أي من المجموعات المتنازعة. تتّبع تركيا في هذا الإطار سياسة إقليمية تشمل الجميع. ويجب أن نبقي قنواتنا مفتوحة مع الكلّ. والمبدأ الثالث هو الترابط الاقتصادي. فنحن بحاجة إلى أوثق ترابط اقتصادي ممكن بهدف التوصل وتأمين سلام مستدام. أما المبدأ الرابع فهو التعايش بين الثقافات المتعددة. تملك كل المدن الكبيرة في الشرق الأوسط مثل إسطنبول والقاهرة ودمشق وبغداد وجوهاً متعدّدة الثقافات. ويعتبر التعايش بين الثقافات المتعددة شرطاً مسبقاً لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. فضلاً عن ذلك، في المرحلة التي سبقت أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، كان تعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات المختلفة أهم محاولة لتعميق الروابط الثقافية والدينية على المستوى العالمي. وعلى مرّ السنوات السبع الماضية، كنا نطبّق سياسة ال «لا مشكلة» مع البلدان المجاورة لنا. ويكمن هدفنا في إنهاء النزاعات وزيادة الاستقرار في المنطقة من خلال السعي وراء آليات وقنوات مبتكرة لحلّ النزاعات وتشجيع إجراء تغيير إيجابي وبناء جسور حوار وتفاهم بين الثقافات. لقد انتقلنا إلى مستوى جديد في سياستنا الإقليمية ونحن نتطلع إلى إحراز تعاون كبير مع جميع جيراننا. لقد تمكنا من عقد اجتماعات على مستوى عال للمجالس الاستراتيجية التابعة للحكومتين في سورية والعراق. يكمن هدفنا في المساهمة في حلّ النزاعات الطويلة في المنطقة من خلال تطبيق إجراءات بناء الثقة والعمل كوسيط أو مساعد بين الأطراف المتنازعة. لا تملك تركيا ترف انتظار بروز النزاعات من أجل معالجة المشكلات المرتبطة بها. لهذا السبب، خضنا في ديبلوماسية سلام تفاعلية في البلقان والقوقاز والشرق الأوسط. يربط تركيا بالشرق الأوسط عاملان أساسيان في العلاقات الدولية هما التاريخ والجغرافيا. تولي سياسة تركيا الخارجية اهتماماً خاصاً بهذه المنطقة وبكل خصائصها بدءاً بالنزاع الطويل وصولاً إلى ميادين التعاون في ما بينهما. وتأمل تركيا أن تُستبدل النزاعات في الشرق الأوسط بالتعاون والأسى بالخير وبالتعايش السلمي. لقد وضعنا هذا الهدف نصب أعيننا وكنا نؤدي دورنا كاملاً على صعيد تقديم العون في كل المبادرات البنّاءة وإطلاق مبادراتنا الخاصة في المكان المناسب. فلا يعتبر ذلك بالنسبة إلى تركيا فرصة تقدّم لها الاعتبارات، بل سياسة قوية قائمة على الحاجة إلى العيش في جوّ سلمي ومزدهر. جميعنا يعلم أن المشكلات في الشرق الأوسط مرتبطة ببعضها بعضاً ولا يمكن معالجة واحدة في معزل عن الأخرى. فعادةً تملك التطوّرات في ناحية من المنطقة تشعبات في مكان آخر وينتهي بها المطاف إلى توليد مشكلات أخرى. يحتاج هذا الوضع إلى رؤية أوسع وإلى مقاربة متكاملة من أجل معالجة الخلافات الحالية في الشرق الأوسط. يشكل النزاع العربي - الإسرائيلي المسألة الرئيسة في الشرق الأوسط. قد يكون حلّ هذا النزاع هو المفتاح لتطبيع العلاقات الإقليمية الداخلية وفتح آفاق جديدة للتعاون والتنمية الإقليمية الكاملة. نحن ندعم بشدة حلّ الدولتين الذي يؤدي إلى إرساء دولة فلسطينية مستقلة وسيادية وقابلة للعيش مع القدسالشرقية عاصمة لها بغية العيش بسلام وأمان مع دولة إسرائيل. ولا شكّ في أن العائق الأساس الذي يقف في وجه استئناف محادثات السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هو المستوطنات اليهودية. إن أردنا إعادة إحياء عملية السلام، فيجب إيقاف أنشطة الاستيطان ورفع القيود المفروضة على تحرّك الفلسطينيين ودخولهم إلى الأراضي. كما يترتب التوقف عن طرد الفلسطينيين من منازلهم والاستيلاء على أراضيهم في القدسالشرقية والتخلي عن الممارسات التي من شأنها تغيير الديموغرافيا ووضعية هذه المدينة المقدسة بالنسبة إلى الديانات السماوية الثلاث. تُعتبر الخطوات الإيجابية ضرورة في الضفة الغربية وفي قطاع غزة أيضاً. فلا يمكن أي عضو مسؤول في المجتمع الدولي، في معزل عن تركيا، غضّ نظره عن الوضع الإنساني السيئ في قطاع غزة. كما يجب في أسرع وقت ممكن دمل جراح المأساة الناتجة من الأزمة في غزة. وأودّ بالمناسبة لفت الانتباه إلى أننا لم نلمس أي تقدّم في غزة على رغم مرور سنة على اندلاع الأزمة. يُعتبر الوضع المتردي في القطاع مسؤولية المجتمع الدولي، ومن المرجح أن يؤدي غياب التدخل البنّاء في هذه المشكلة إلى مشاكل ثقة جدية حيال المعايير والمؤسسات في النظام الدولي. يجب أن نؤمّن تقدّم الوضع في غزة بقدر حاجتنا إلى إعادة إطلاق عملية السلام في شكل طارئ. ونحن ندرك أن إعادة إحياء عملية السلام في كل مساراتها هي المقاربة الأفضل. لقد قمنا بوساطة معروفة بين إسرائيل وسورية في الماضي ونحن مستعدون للاستمرار في ذلك طالما أن الجانبين يطلبانها. وثمة ضرورة لإحراز تقدّم فوري على صعيد الخلافات الأخرى في المنطقة، ومن بينها غياب الوحدة بين الأطراف الفلسطينيين. نحن نتطلع إلى التقدم في هذه المسألة التي تعتبر أساسية بالنسبة إلى قيام دولة فلسطينية ولإنجاح عملية السلام أيضاً. إن أردنا التوصل إلى سلام مستقر في المنطقة، فيجب أن نكون واقعيين في المقاربات التي نطرحها، لا سيما أن التكلم على الحلول من دون تطبيقها لا يجدي نفعاً في غزة. وفيما نقترب أكثر من العقد الثاني في القرن الحادي والعشرين، يبقى تحقيق الاستقرار في العراق وفي أفغانستان مهمّة هائلة يجب على المجتمع الدولي الاضطلاع بها. فضلاً عن ذلك، لا تزال الأزمة المحتملة التي قد تنتج من البرنامج النووي الإيراني تلوح في الأفق. فكشفت التجربة الأخيرة المتعلقة بهذه المشكلات أن سياسات الإكراه والعزل تؤدي إلى نتائج عكسية. بالتالي، نحتاج هذه المرة إلى التمعّن جيداً بميّزات الالتزام البنّاء والشمولية والديبلوماسية الحذرة التي تأخذ في الاعتبار كلّ الأبعاد المؤدية إلى انعدام التقدم في هذه المشاكل. فيجب على وجه الخصوص التنبه إلى الأهمية المتزايدة التي يتمّ إيلاؤها إلى الرأي العام في عمليات اتخاذ القرارات والحاجة المتزامنة للحكومات لإبقاء المعنويات عالية. يكمن هدفنا الأساس في تحسين علاقاتنا مع كل الدول والتأكد من إحلال السلام والاستقرار في منطقتنا وخارجها. نأمل في العيش إلى جانب دول مستقرة مما يسمح لتركيا ولبلدان المنطقة بالازدهار بسلام. تقوم علاقاتنا مع إسرائيل على غرار علاقاتنا مع كل البلدان في المنطقة على التفاهم الذي يناسب مصالح شعوبنا ويساهم في إحلال السلام والازدهار والاستقرار في المنطقة. ولهذه الغاية، أجرينا حواراً ذا مبادئ وصريحاً ومباشراً مع إسرائيل. ولم يحصل أي تغيير في هذه المقاربة. كما سبق وذكرت، نعتمد في سياستنا في المنطقة مبدأ الالتزام والحوار في مقابل العزلة والإكراه كوسائل لتعزيز الاستقرار وتخفيف التوترات. ويشكل ذلك الدافع الأساس الذي يقف خلف مبدأ التعاون في سياستنا الخارجية. والمثال الجيد على ذلك هو علاقاتنا مع سورية التي تُعتبر بلداً أساسياً في المنطقة وهي تملك دوراً مهمّاً تؤديه. لقد أكدنا ضرورة توظيف تعاوننا ومساهمتنا لمعالجة المشاكل في المنطقة. في هذا الإطار، قامت تركيا إلى جانب سورية بخطوات لإنشاء مجلس تعاون استراتيجي رفيع المستوى مؤلف من عشرات الوزراء التابعين للبلدين وهو يهدف إلى مراجعة ومتابعة أشكال التعاون بينهما المتراوحة بين الزراعة والطاقة والتجارة والاقتصاد والمال والنقل وتكنولوجيا الاتصالات والتنمية الإقليمية وصولاً إلى المسائل العسكرية والأمنية. وصُممت هذه الآلية بطريقة تضع تعاوننا في إطار عمل مؤسساتي وتساعد على ترويج المشاركة الاقتصادية في المنطقة الأوسع. كما أننا شكلنا آلية مماثلة مع العراق واتفقنا مبدئياً على إرساء آليات مماثلة جديدة مع ليبيا والأردن ومصر. ونحن نأمل في أن ترسي هذه الآليات مثالاً يحتذى في المنطقة من أجل التعاون للتوصل إلى الأهداف المشتركة المتعلقة بالاستقرار والازدهار. يعتبر الدور الذي أدّيناه وسنستمر في تأديته على صعيد الخلافات بين بلدان المنطقة نتاجاً طبيعياً لقناعتنا بأن البلدان الإقليمية يجب أن تتعلم كيف تحلّ مشاكلها الخاصة بنفسها ضمن المنطقة. يعترف الاتحاد الأوروبي بتأثير تركيا المتزايد في الشرق الأوسط. فتعتبر الديناميكية الجديدة التي تميّز سياسة تركيا الخارجية في المنطقة مصدر قوة لأوروبا. وبما أن تركيا بلد إقليمي يدافع عن القيم العالمية مثل الديموقراطية وقاعدة القانون والتعددية واقتصاد السوق والحكم الرشيد والمحاسبة والشفافية واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، فهي في موقع مناسب يخوّلها المساعدة على الترويج لهذه القيم في المنطقة الأوسع. تتناسب نظرة تركيا الهادفة إلى التوصل إلى سلام وأمن وتعاون مستدام في المنطقة مع إطار عمل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. فضلاً عن ذلك، تتقاسم تركيا الجغرافيا نفسها لأوروبا وتملك علاقات طويلة مع كل بلدان المنطقة. تقدّم تجربة تركيا وخبرتها في المسائل الإقليمية وموقفها القائم على مبادئ، موقعاً فريداً لها لتعمل كمساعد على حلّ النزاعات و/أو تخفيف حدّة التوترات. بالتالي، ساهم تأثير تركيا المتزايد في الشرق الأوسط في مساعدتنا على صعيد علاقتنا مع الاتحاد الأوروبي. وقد يعطي انضمامنا المحتمل إلى الاتحاد قيمة مضافة إلى توسعه في الشرق الأوسط. * وزير الخارجية التركي