وجود المرجعية السياسية العليا للإصلاح مسألة أساسية ونقطة انطلاق يرتكز عليها المسؤول العازم على التغيير نحو الأفضل، فمصلحة الوطن يجب أن تأتي فوق المنافع الفئوية مهما كانت طبيعتها، ومهما كانت شخصياتها، ومن المتوقع عادة من أصحاب المصالح الفردية أن يتفننوا في حبك العراقيل والخطط التي تقف في وجه تبديل أنماط الحياة المرفهة التي اعتادوا عليها. وليس من السهل أبداً لمن يحاول اقتلاع شوكتهم التي استحكمت المضي في مهمته «على نزاهته»، بلا دعم أكبر من القيادة. فالشر له أنيابه، وحين ينوب عن الخير ويجد مرتعاً وأعواناً، فليس من الهين أو العادي تنظيف المرعى منه ومن بعده. ومسألة إلقاء القبض على الأسماء البارزة التي ثبت تورطها الفسادي وفضحت أمطار جدة أصحابها (تسربت بعض الأسماء إلى «النت»)، لم نعتقد صراحة بأن يداً ستطولهم حتى مع لجنة تقصي الحقائق، فنحن السعوديين لم نعتد على ثقافة المحاسبة وأدبيات المتابعة، خصوصاً لمن كان له ظهر، أو استند إلى ظهر وبطن. صحيح أن نتائج التحقيقات لم تظهر بعد، وهذا سابق لأوانه، إنما يكفينا أن رجال الوطن الشرفاء «لقطوا أصحاب المراتع» قبل أن يغادروا إلى منتجعاتهم ومزارعهم المنتشرة في الخارج للاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة التي عاشوا على طقوسها بأموال أرض نهبوها. من عناصر الحقوق المدنية والسياسية حق الإنسان في التقاضي بضمان مبدأ المساواة، وعلنية جلسات المحاكمة، وحيادية القضاء واستقلاله، وطبعاً حق الدفاع والاستعانة بمحامٍ، وإن كنت لا أدري من أين يستمد أي محامٍ قوة دفاعه عمن فرط في أمانة وطنه! ولكنه حق عادل، فلا تجريم بلا دفاع، وبلا مرافعات قانونية. ولكن من جهة أخرى نجد أنه من حق المنكوبين بهذا الفساد، ومن حق أهالي جدة بمعاناتهم الطويلة، ومن حق السلطات، ومن حقنا جميعاً أن نستمع إلى أولئك الموقوفين، فننصت إلى دفاعهم عن أنفسهم وحجج محاميهم، ونتتبع من خلالهم كيف سارت الأمور وبُعثرت الأموال تحت «الطاولات» وفوقها، فإن تعذّر بث الجلسات مباشرة، فعلى الأقل الأجزاء المهمة منها، فإن قيد هذا الطلب وذاك، بمبرر أنه لا يجوز التدخل في عمل القضاة أو التأثير عليه بأي صورة، والإعلان عنه واحد منها، فلا أضعف من تصوير الجلسات وتمرير أشرطتها بعد صدور الأحكام، باعتبار أنها قضية رأي عام، ينتظر الشعب معها كشفاً على تفاصيلها، وإن كان «بثها مرئياً» سابقة في التاريخ القضائي السعودي، غير أنه إجراء ضروري ليعتبر من يعتبر، صيانة لمخصصات البلد، وحفظاً للأمانات والمسؤوليات التي لا يستقيم وطن بضياعها. فعلاً لا يسقط الظلم بالتقادم، ولا يُفتخر بمال مسروق، ولا ينقذ المرء غير صدقه وصلاحه، فأين هي تلك العائدات الآن؟! وما نفع القصور ونعيم الحياة الملوثة؟! وكيف يمضي الأبناء وهذه التهم تُلحِق بآبائهم وعائلاتهم العار! ولا أعلم، ولا أظنني سأعلم، أين يكون ضمير المرء وعقله وهو يمشي في طريق الغي عامداً ومُصِرّاً، ولا أقول سوى إن أمطار جدة قد أرسلتها السماء في أيام حج فضيلة، لتكون وبالاً على أناس غضب الله عليهم، فاستحقوا يومهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. [email protected]