كأن التاريخ في إيران يعيد نفسه. فالذين ثاروا على ديكتاتورية الشاه وبطشه واستهانته بشعبه يلعبون اليوم الدور نفسه تقريباً، بعدما انتهى مفعول «الرشوات» التي قدموها للناس لإيهامهم بالاختلاف والتغيير، وبعدما صاروا بدورهم نظاماً يقمع ليستمر، ويظلم ليحكم، ويزوَر الارادات ليفرض نفسه. ومع ان الصدامات الحالية لم تصل بعد الى الزخم الذي شهدته ثورة 1979 ضد نظام الشاه وقت اندلاعها، الا ان تلك جاءت نتيجة تراكم طويل وتنام يومي لحالة الاستياء العامة التي سببتها سياسات رضا بهلوي الداخلية والخارجية على مدى عقود. وكانت القوى السياسية، لا سيما اليسارية منها، قد حضرت نفسها جيداً للانفجار الكبير واستعدت للمواجهة الواسعة مع ادوات السلطة، عبر تنظيم كوادرها ومناصريها في شبكات تضمن استمرار اتصالهم مع قياداتهم في حال اشتدت حملة القمع، وتلقيهم التعليمات اللازمة حول مواقع التظاهر وكيفية التجمع والتحرك، مستفيدة من الخبرة الطويلة التي كسبتها في التعامل مع أجهزة الأمن وذراعها السري المرعب: السافاك. وهو ما قلدته لاحقاً الحركة الدينية التي قادها الخميني عبر شبكات رجال الدين السرية. واليوم تتكرر المشاهد نفسها في المدن الإيرانية المختلفة. متظاهرون لا يهابون عصي الباسيج والحرس وأسلحتهم وسجونهم، يلفون الشارات الخضر على أذرعهم وينطلقون في الشوارع يدعون لسقوط «الديكتاتور» الجديد، ولا يزيدهم القمع إلا اصراراً على التعبير عن رأيهم والمطالبة بحقهم في التغيير. وكلما أكد النظام ان «مؤامرة الانتخابات» انتهت، أظهروا له ان القتل والسجن وقنابل الغاز المسيلة للدموع لن توقف تحركهم، وانهم مثل فتيل يشتعل ببطء من دون ان تنطفىء جذوته ولا بد ان يصل يوماً الى «مخزن البارود»، وان القنبلة الإيرانية التي يخشاها العالم لا يمكنها ان تخفي القنبلة الموقوتة التي تتضخم في ساحات طهران واصفهان وحتى قم. الاستعراض البسيط لتصريحات المسؤولين الإيرانيين امس واليوم يكشف كم تتشابه المواقف والقناعات: فالشاه ايضاً لم يكن يصدق ان حكمه سيسقط وظل مقتنعاً حتى اللحظة الأخيرة قبل فراره بأنه لم يفعل خلال عهده ما يستوجب رحيله ويستدعي كل هذا الغضب، وانه سيستعيد السيطرة على الامور بعد انتهاء «المؤامرة». بعد شهور قليلة على نجاح الثورة ضد الشاه، فاجأ الخميني الإيرانيين بدعوتهم الى عدم استخدام مصطلح «الديموقراطية» لأنها «مفهوم غربي» على حد تعبيره. وكان في ذلك الوقت قد بدأ خطة الإبعاد القسري لجميع «اعدائه» الذين شاركوا في اطاحة النظام السابق، عبر التفجيرات والاغتيالات، ثم الإعدامات والسجن والنفي بعد محاكمات صورية. واستطاع بذلك ان يفرض نفسه مرجعاً أعلى بلا منازع لا يمكن مخالفة اوامره او مناقشتها، بعد خلط مقصود بين الديني والسياسي توجته نظرية «ولاية الفقيه»، ما عنى الغاء اي دور مستقل لمؤسسات الدولة واجهزتها بما في ذلك القضاء. وكان الدليل الاقوى على رفض اي معارضة لتوجهاته حتى من داخل نظامه نفسه، اقصاءه خليفته المعين آية الله منتظري بسبب احتجاجه على الاستخفاف بحقوق الانسان والتقييد المبالغ فيه للحريات. وبعد ثلاثين عاماً، تتقاسم آراء منتظري الذي غاب قبل ايام شريحة كبيرة متزايدة من الشعب الايراني ترغب في وقف هدر طاقات البلاد وثرواتها في سياسات تضع إيران في مواجهة مع العالم كله تقريباً، وتستند ايضاً الى سطوة الأجهزة الأمنية لمحاولة إلغاء اي صوت مخالف. لكن ما يجري ليس سوى البداية.