تصدر قريباً رواية للناقد معجب الزهراني بعنوان «رقص» عن دار طوى. وأن يصدر الزهراني رواية ليس تلك المفاجأة، بعد أن كتبها الطبيب والمهندس والأكاديمي وحتى الطلبة، إنما الأمر له علاقة بأن المشهد الثقافي ينتظر من الزهراني كتاباً نقدياً يكرس من خلاله اسمه ومشروعه النقدي. هذه الرواية ستضع اسم الزهراني على المحك وتجعل منه موضوعاً للمحاكمة، بخاصة أنه يبدي صرامة في تعامله مع الرواية السعودية، من نواح جمالية وفنية، إذ نادراً ما يرضى عن عمل روائي. ننشر هنا مقطعاً من الرواية. خلال سبع سنوات وهم لا يدرون إن كنت حياً فأرجى أو ميتاً فأرثى. لم أكن خائفاً على أبي. فالشيخ السبعيني المجرب الحكيم كثيراً ما يبدو لي شجرة لوز عتيقة لا تهزها أعتى العواصف. وزوجتي أعرفها. شابة كتومة تتخفى عواطفها وراء طبقات من الحياء والخجل ولن تتدفق أمام الآخرين مهما حصل. وابني طفل في السابعة، لم يرني من قبل، وقد لا يقبلني بحب مطلقاً. كنت أخشى على أمي. قلب الأم يختزن كل أحزان الأبناء ويختزل كل أفراحهم. لهذا يظل يكبر ويتسع باستمرار حتى يصبح الجسد كله قلباً رقيقاً حنوناً هشاً يمكن أن ينفجر حزناً أو فرحاً في أية لحظة. لو رأتني واقفاً أمامها فجأة ابتسم وأتهيأ لاحتضانها لن تتحمل. وقد تتهاوى قبل أن أصل إليها. وكيف سأطيق العيش لو سقطت بين يدي وأنا أقبلها وأنتشي بروائح الحياة الحميمة في وجهها وعنقها وملابس رأسها؟ قلت له لا يتعجل. رجوته أن يشرب القهوة ويتناول ما تيسّر من التمر والزبيب واللباب براحة بال ثم يوصل الخبر بالتدريج. أكدت له أنني سأنتظر مرتاحاً حتى لو بقي إلى صلاة العصر. ولم أكن أكذب أو أبالغ. فالهواء بارد منعش، والمكان يسمح لي برؤية قرى ومزارع خلتها تخلق للتو لتشاركني مشاعري المحتشدة هذه اللحظة. صعدت على صخرة «موسى» الذي تنسب إليه القرية وأهلها. عادت لي أجمل ذكريات طفولتي ومراهقتي. أشعلت سجارة. تلذذت بنكهة دخانها على رغم أنني نادراً ما أدخن. وتلذذت أكثر بالخفة الواضحة في حركات يدي الطليقتين. لمحت غيمة تركض من جهة البحر فأيقنت أنها جاءت لتمنحني بعض الظل الندي والكثير من الصور المشتهاة. راودتني رغبة في الغناء. غنيت قصيدة غزل من طرق الجبل. سمعت صوتي ينطلق ورأيته يحلق خفيفاً حراً صافياً لأول مرة منذ سبع سنين. تمنيت لو نسيني صاحبي ساعة على الأقل. مرت عشرون دقيقة حسبتها ثانيتين. كم يتغير إحساسي بالزمن الآن. هاهو يمر أسرع مما أريد. ولا يمر ببراءة. كأنه يغريني بالركض وراء المحال. ولولا أنني كنت منشغلاً بما سيحدث هناك لنسيت نفسي وحلّقت فوق هذه الجبال. وأنا أنتظره كنت أتوقع سماع القليل من أصوات الفرح العائلي المكتوم لا غير. لم تكن القضية واضحة للناس. كثيرون ربما صدقوا أنني مجرم خطير على البلاد والعباد. وحتى لو عدوني ضحية بريئة فلن يتغير الموقف كثيراً.. مثلك يعرف. الدولة قوة مخيفة منذ أزمنة الأتراك. ومن يكون خصماً لها لا يتوقع الكثير من صخب البهجة حين ينجو صدفة من خبطة العمياء المهلكة. لكن ما سمعته شيء آخر! لم أصدق أذني أول الأمر. طلقة.. اثنتين.. ثلاثاً. ثم لم أعد أسمع سوى أصوات البارود المختلطة بزغاريد النساء وصياح الأطفال. لا أدري كيف انتشر الخبر ومتى تنادى الناس وأشعلوا قبس البهجة خلال أقل من نصف الساعة. حتى صاحبي عاد وهو يركض ويراقص أشجار الطريق. سألته عما حدث فلم يقل لي شيئاً وكأنه ترك لسانه هناك. نسيني، ونسي عمامته التي سقطت على كتفه. وحين وصلنا بدأت أحاول الفهم ولا أفهم. لم تستطع سيارة البيجو الصفراء الدخول إلى ساحة البيت. فالمزرعة الواسعة التي تفصله عن الطريق العام كانت قد امتلأت ببشر بدوا لي وكأنهم يؤدون العرضة في هذا المكان منذ الصباح! توقفت السيارة فإذا بأبي يفتح الباب ويقبلني على عجل ثم يلبسني البشت ويضع البندقية في يدي ويأخذني إلى مقدمة الصفوف. ولا أدري من قبلت ومن لم أصافح. ولم يكن هناك مجال للشعور بالحرج. فالجموع كثيرة وذاكرتي متعبة. وجوه أعرفها وأخرى أراها لأول مرة. أوشكت أن أؤمن لحظتها بأن الجن يشاركون الإنس الغناء والرقص عند اللزوم. ولم تكف الحشود عن التوافد. من كل قرية قريبة جاءت عرضة ومعها شاعر يرحب ويمدح، وأكثر من راقص ينظم الصفوف ويشعل الحماسة في الأجساد والنفوس. ولم أر أحداً يرقص وليس في يده بندقية أو سيف أو جنبية أو خيزرانة. أصوات البنادق تحولت إلى دوي متصل، ولم ينقطع من العصر إلى المغرب. خلت جماعتنا أعلنوا التمرد على كل شيء وكل أحد. توهمت أنهم أعلنوا الثورة الأولى والأهم في تاريخ المنطقة، ولن يقنعوا بغير الاستقلال التام عن كل سلطات العالم. وكلما تيقنت أن هذا الرقص لي ومن أجلي نسيت سبع سنين من السجن والتعذيب. كنت ضحية فتحولت بطلاً. كبار الجماعة يتبادلون أماكنهم عن يميني وشمالي. بعض الشباب كان يرقص وينظر إليّ كمن يصرّ على أن أصعد معه إلى السماء السابعة. شعرت بطاقة غريبة في جسدي وليونة عجيبة في تراب الأرض. رقصت وغنيت كما لم أفعلها من قبل. مرة في مقدمة العرضة ومرة في وسط الساحة. لم أحب أو أحمل سلاحاً قط . لكنني ما كنت أفرغ بندقيتي حتى يناولني أحد غيرها. خيل لي أنني أطلقت من الرصاص أكثر مما أطلقته جيوش العرب في أعوام النكبات كلها. لا.. لم تكن تلك مجرد عرضة. كانت تظاهرة فرح ومناورة قوة وطقس غضب. رقصة حب وحرب. رقصة احتفال وقتال. رقصة جنون وجمال. تلك أجساد اشتعل فيها بارود سري فقررت أن تذهب بمعاني الحياة إلى ذراها الأخيرة. حتى أبي فاجأني وكنت أحسب أنني أعرفه أكثر مما يعرف نفسه. كان شخصاً آخر يومها. تحول الشيخ السبعيني الوقور إلى فتى نحيل خفيف تتقد في عينيه مشاعر غامضة فيراقص الريح ويتدفق الشعر على لسانه. مرة يحمل ابني على كتفه وينشد، ومرة يمسكه من يده ويرقص، ومرة يقف وسط الصفوف مرحباً بي وبالضيوف. أما حين كان يتقدم العرضة ويلوح لي بسيف دمشقي تصقله أشعة الشمس كلما هزه يمنة ويسرة فأحسبه يقودني إلى المعركة من جديد! آه يا صديقي.. لو عرف الناس قيمة الرقص لمحوا فيه كل تعب وتداووا به من كل حزن. تلك العرضة كانت الانتصار الحقيقي لكل الضحايا. تمنيت لو كان جميع الرفاق معي. تمنيت لو يستقبلون بمثلما استقبلت به. خرجت من السجن مكسوراً قبل ثلاثة أيام لكنه خرج مني مهزوماً تلك العصرية. وكان خصومي أمامي في وضع مبتذل مهين. مرة أراهم كئيبين يتفرجون على مشهد جميل نبيل غير قادرين على منعه أو على المشاركة فيه. ومرة أراهم يتساقطون منهكين تحت قدمي فأرقص على صدورهم وأعناقهم. وما كنت أنتقم من أحد. كنت أرقص منتشياً فحسب.