«لأن الموت لا شيء في حياة مذنّب»، فإن وفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش لن تنال من الطاقات الكامنة في أعماله الشعرية. ولعل أفضل مثالٍ على ذلك هو ديوان صديقه الشاعر الإفريقي الجنوبي برايتن برايتنباخ الصادر حديثاً لدى دار «أكت سود» الباريسية باللغتين الانكليزية والفرنسية تحت عنوان «Outre - voix». ففي هذا الكتاب الجميل، تمكّن هذا الشاعر من ليّ ذراع الموت، مبرهناً أن الشرارة التي أحدثها درويش مازالت تلمع وأن القصائد التي تركها لا تُقهَر. بعد رحيل صاحب «جدارية»، انطلق برايتنباخ في تحقيق فكرةٍ عبثية، ولكن شعرية إلى حدٍ كبير، ترتكز على إقامة حوارٍ مستحيل مع صديقه الراحل وعلى مد جسرٍ بين العالم الآخر وعالمنا الذي يغوص كل يومٍ أكثر فأكثر في الفوضى. ومن هذه المغامرة، نتجت اثنتا عشرة قصيدة كتبها برايتنباخ باللغة الأفريقانية أولاً، ثم نقلها بنفسه إلى اللغة الانكليزية، وكلها مستوحاة مباشرةً من قصائد لدرويش، وأحياناً مرصّعة ببعض أبياته الشعرية. أما الترجمة الفرنسية لهذه القصائد فخاض غمارها بأمانة الكاتب الفرنسي جورج لوري انطلاقاً من النسخة الأفريقانية. ويشير برايتنباخ في هذا الكتيّب الى أن مصدر الصور الماثلة في هذه القصائد، وإلى حدّ ما، الإيقاعات والأشكال المستخدمة فيها، هو التنويعات المختلفة الملحوظة في شعر درويش. ومع أن برايتنباخ لا يجيد اللغة العربية، فهو ارتكز في شكلٍ رئيس على الترجمات المتوفّرة باللغتين الانكليزية والفرنسية لدواوين درويش، واتكأ على إصغائه مراراً إلى قراءات صديقه في مناسباتٍ مختلفة. وباختصار، سعى برايتنباخ خلف درويش بين كلمات هذا الأخير بالذات فكتب قصائد جميلة بقوافٍ مستحيلة وبنبرة ليلٍ بلا قمر، قصائد تفتح أبواب السماء كي يتساقط الثلج ويُخصِّب صحراء العصر العقيمة. وبرايتنباخ شاعر ورسام، وُلد عام 1939 في مقاطعة الكاب في جنوب إفريقيا وناضل منذ بداية الستينات ضد نظام التمييز العنصري الذي بقي سائداً في بلده حتى عام 1994، فُسجِن فترةً طويلة غادر بعدها إلى جزيرة غوري السينغالية حيث يدير منذ سنوات «معهد الأبحاث من أجل الديمقراطية والإنماء والثقافة». قصائد ديوانه الأخير تتضمّن رسالةً واضحة مفادها أن العالم الذي تحوّل اليوم إلى قرية لا يمكنه أن يقوم على إقصاء الآخر، بل على الاختلاط والتهجين والقسمة، وهي رؤيةٌ فهمها درويش ودافع عنها دوماً، إن في كتاباته أو في أقواله ومداخلاته، من منطلق التجربة الفلسطينية التي تشكّل خير مرآة لجميع حالات الاضطهاد والظلم التي يشهدها العالم.