عندما قرأت الكتاب «أسرار الصندوق الأسود» للزميل غسّان شربل اعتقدت بأنه لن يستطيع أن يؤلف كتاباً أفضل منه، فقد ذهب فيه الى أروقة استخبارات ودهاليز مؤامرات لم يطأها مجتمعة صحافي قبله، إلا أن كتابه الجديد «من حرب الى حرب: صدام مرّ من هنا» أهم كثيراً، فهو في أهمية العراق كبلد عربي تاريخي كبير دمره بعض أبنائه، قبل أن يتآمر عليه أعداؤه في الخارج. في المقدمة إشارة الى قمة أيار (مايو) 1990 في بغداد وصدام حسين يعيش «زهو» انتصاره على إيران الخميني ويريد من العرب شطب ديون الحرب، والاعتراف بزعامته العربية. ما أذكر عن تلك القمة أن أبو عمار وأعضاء وفده اليها خرجوا مذعورين والرئيس العراقي يتهمهم بالخيانة، وأن الشيخ صباح الأحمد الصباح، أمير الكويت الآن ووزير خارجيتها في حينه، قال لي في حزيران (يونيو) من تلك السنة، أي بعد شهر من القمة وقبل أربعة أشهر أو نحوها من الاحتلال المشؤوم كلاماً أختصره بالتالي: الله ينجينا من صدام حسين. هو متغطرس ومغرور وقادر على أي شيء. جلس على كرسي أعلى من الزعماء العرب ضيوفه، وبعضهم أكبر منه سنّاً، ووضع رِجلاً على رجل ونعله أمامهم (أو في وجوههم... لم أعد أذكر حرفية العبارة). الشيخ صباح رأى بعين البصيرة خطر صدام، ولعله لم يتوقع أن تكون مغامرته التالية في الكويت، إلا أنه قدّر أن الحرب مع إيران شجعت صدام على مثلها بدل أن تثنيه عن تكرار التجربة، خصوصاً أنه كاد يخسر الحرب في سنتي 1982 و1983. في كتاب غسّان شربل الفريق الأول الركن نزار الخزرجي، رئيس أركان الجيش العراقي، يُستدعى الى رئاسة الأركان في 2/8/1990 ويبلغه الفريق علاء الجنابي، السكرتير العام للقيادة، «أكملنا احتلال الكويت». ويصل بعد ذلك وزير الدفاع عبدالجبار شنشل ليسمع الخبر نفسه. صدام حسين كان متآمراً بامتياز ولم يعرف قرار الغزو غيره سوى حسين كامل، زوج ابنته، وعلي حسن المجيد (الكيماوي). صلاح عمر العلي، عضو مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية للبعث، والوزير والسفير، يروي أن صدام حسين شارك في أيلول (سبتمبر) 1979، أي بعد شهرين من توليه الرئاسة، في قمة عدم الانحياز في هافانا، وقابل هناك وزير خارجية إيران إبراهيم يزدي، وكان الاجتماع طيباً وجعل السفير العلي يعتقد بأن الأمور بين البلدين ستسير بشكل طيب، إلا أن صدام حسين فاجأه بالقول إن هناك «فرصة لن تتكرر. سنكسر رؤوس الإيرانيين ونعيد كل شبر أخذوه من شط العرب». كان أحمد حسن البكر أسير صدام حتى خلفه هذا في الرئاسة، وهو ما إن تولى الحكم حتى أعدم 54 قيادياً من الحزب بتهمة التآمر عليه، وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 1996 أعدم 39 ضابطاً كبيراً، والكتاب «صدام مرّ من هنا» لا يكاد يخلو في صفحة واحدة من أخبار اغتيال أو مجزرة، فقد حكم العراق بعد سقوط الملكية رجال يجمع بينهم جهل كامل في أصول الحكم مع قسوة نادرة راحوا ضحاياها مع الضحايا الآخرين و «النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله». ثم يفاجأ القارئ أن يقرأ ان الانقلابيين الأوائل كانوا بعيدين عن الفساد، وعبدالكريم قاسم بقي يقيم في بيت بالإيجار، وهو الزعيم الأوحد ويوزع البيوت على الضباط والمسؤولين. كذلك كان عبدالسلام عارف ورفاقه وهم يشتركون في دفع ثمن طعامهم من مطعم مجاور، حتى بعد أن أصبحوا في الحكم، وكان شقيق عبدالسلام المكوجي عبدالسميع، ودخل عبدالرحمن عارف الحكم وتركه نظيفاً ولم تلحق به أي تهمة. الفساد جاء مع أحمد حسن البكر وصدام حسين وصالح مهدي عماش، ثم الأبناء في قصص تعكس انهيار قيم المجتمع العراقي، خصوصاً في 35 سنة مروعة قضاها صدام حسين رئيساً. الكتاب يسجل مقابلات طويلة أجراها غسّان شربل مع حازم جواد وصلاح عمر العلي ونزار الخزرجي وأحمد الجلبي، وكلها مهم، إلا أن أهمها في رأيي 55 ساعة مسجلة مع حازم جواد الذي لم يتكلم قبلها أو بعدها، فهو وعد بكتابة مذكراته يوماً ولم يفعل، وتبقى روايته لغسّان شربل الرواية الوحيدة لدوره في بدايات البعث وثورة 1958 وانقلاب عبدالكريم قاسم سريعاً على رفاقه وثورة 1963 وتفرّد عبدالسلام عارف بالحكم ثم عودة البعث الى الحكم سنة 1968، وصعود صدام حسين التدريجي. كان صدام حسين مجرد نصير للحزب عند مشاركته في محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم سنة 1959، وناب عن شاب لم يستطع الحضور للمشاركة. وفرّ أركان الحزب الى سورية وأراد فؤاد الركابي تكريم صدام بجعله عضواً فرشحه وثنى على الترشيح حازم جواد، والجميع في قبو شقة في دمشق، وحكم صدام بعد ذلك بعقلية المغاور والدهاليز حتى أُخرج من جحر ليحاكم ويعدم. المقابلة الأطول في الكتاب كانت مع أحمد الجلبي، وفي حين أنني أصدق بعض روايته للأحداث، وأقبل أن المندوب السامي الأميركي بول بريمر أصدر قراره الأول بحل حزب البعث وطرد البعثيين من العمل وقراره الثاني بحل الجيش من دون استشارة، إلا أنني أجد الجلبي مسؤولاً عن الدمار الذي حلّ بالعراق بعد الاحتلال، وهو بالتأكيد لم يتوقع موت مليون عراقي، إلا أنه في حقده الأعمى على صدام حسين (وهذا يستحق مصيره) لم يلاحظ أنه ترك العراق وهو في بداية المراهقة وأن الذين تعاون معهم لإطاحة صدام أعداء معروفون للعرب والمسلمين ومن أحقر المحافظين الجدد الليكوديين، بل إنه في المقابلة لا يزال يستشهد بأمثال ريتشارد بيرل وبول وولفوفيتز ودوغلاس فايث، وأنا أصرّ على أنهم عملوا لتدمير العراق خدمة لإسرائيل فقط. الجلبي يشير الى دخوله العراق مشياً ويتحدث عن المفكر كنعان مكيّة، إلا أن هذا أفضل منه لأنه اعترف بالخطأ، أما الجلبي فلا يزال يركب رأسه ويصر على أن لا دم على يديه، وأراه مجبولاً بدم العراقيين. «صدام مرّ من هنا» قراءة لا غنى عنها لمن يريد أن يعرف حقيقة مأساة العراق في نصف القرن الأخير، وقد عرضته من دون رأي تقريباً لأن مقالي ينشر في «الحياة» وغسّان شربل رئيس تحريرها، ولأن المؤلف صديق شخصي فتجنبت إطراء كنت سأغدقه عليه لو كنت لا أعرفه. [email protected]