اختتم بيت «الحكمة» في تونس الاحتفالات التي نظمتها وزارة الثقافة بمناسبة مئوية الشاعر أبي القاسم الشابي بندوة عربية كبرى، ودارت أوراق الندوة حول حداثة الشابي ومختلف تجلياتها. ولئن اتفق النقاد على أن شعر الشابي مثّل حدث خروج وفعل تأسيس، حدث خروج عن سلطة الأنموذج الذي أصّل في الشعر العربي تقاليد في الكتابة استحكمت صورها بالعقول والأذهان، وفعل تأسيس لشكل من الكتابة جديد، فإنهم اختلفوا في تحديد مظاهر الخروج ورصد أشكال التأسيس. لاحظ حمادي صمّود وهو يعيد النظر في مدونة الشاعر أن المواد التي استخدمها الشابي ليس منها ما لم يستعمله الشعراء من جيله، وحتى من قبل جيله. فإيقاعه الشعري، وكذلك الصور التي عمرت فضاء قصائده والأساطير التي استدعاها، والمعجم الشعري الذي قدت منه ملامح قصائده وملامستها مواد عادية لا يمكن بالنظر إليها منفصلة أن تولد هذا التفوق، وتعطي هذه المكانة. والواقع أن قيمة شعر الشابي تكمن في تزاوج هذه الأخلاط وتمازجها، أي تكمن في هذه الكيمياء الشعرية التي لا يعرف سرها إلا من انفتحت أمامه مدارات الشعر القصية، ومكنته مما لا تهبه إلا لقلة القلة من أفذاذ الموهوبين. وإلى الموقف نفسه جنح الناقد السعودي سعيد السريحي الذي اعتبر حداثة الشابي حداثة لغوية في المقام الأول، لهذا دعا إلى الانعطاف على لغة الشاعر بالنظر الى تلك اللغة التي تكشف عما كانت تتسم به تجربة الشابي من قلق وتوتر يشوبان علاقته بالعالم من حوله على نحو لا يمكننا معه أن نحدد هذه العلاقة، فهي علاقة حب وكره وهدم وبناء. ففي قمة تغنّي الشاعر بجمال العالم، تنكشف، في نظر الناقد، رغبة دفينة في فضح ما يتخفى خلف ذلك الجمال من قبح على نحو لا يغدو فيه الجمال جمالاً صافياً ولا القبح قبحاً صرفاً، بل هما حالتان تتناوبان العالم في لحظتين متعاقبتين تشكلان مصدر شقاء الإنسان وسعادته في آن. أما الناقدة اللبنانية زهيدة درويش جبور، فأوضحت أن الحداثة ليست زمنية بالضرورة بل معيارها طبيعة التجربة، وأول ما يلفتنا في هذا السياق عند الشابي هو تعريفه للشعر بأنه «يقظة إحساس»، وهذا المفهوم بدا للناقدة حداثوياً بامتياز، ذلك أن الإحساس هنا لا يقتصر على الشعور بل يتجاوزه إلى وعي الذات لذاتها كحضور فريد، وللعالم من حولها كوجود مملوء بالغموض والأسرار التي تدعو إلى اكتشافها، مما يجعل من التجربة الشعرية توقاً مستمراً إلى المجهول. واستدرك الناقد أحمد الجوّه الأوراق السابقة ليؤكد أن حداثة الشابي لم تكن منشدة إلى الأنموذج الغربي تحاكيه وتحاذيه وإنما تكمن في تحفيز بنية القصيدة التقليدية، وفي تحريكها لإيجاد الإبدالات، وفي دفعها إلى أقصى ممكناتها فلئن شاع أن تحديث القصيدة العربية يقتضي بالضرورة الخروج على منوال القصيدة العمودية، فإن التحديث قد يكون أيضاً بمفاوضة هذا المنوال الشعري، وبدفعه في مسالك أخرى فلا يكون احتذاؤه آيلاً إلى تنميط المنوال، بل إن النسج على هيئته يولد ابدالات يتأكد بها التحديث وتبرز بها نتائج التفاوض بين الشاعر وما استقر من أبنية الشعر. وذهب الناقد المغربي خالد بلقاسم إلى أن قيمة الشابي تجسدت أساساً في انخراطه في أسئلة الشعر كما صاغتها موجة التجديد في زمنه، وفي وعيه بضرورة التصدي للتقليد، وفي انفتاح الشكل الكتابي عنده على ما أرسله شعراء الرومانسية في المهجر وتخصيب الخيال بمورد أسطوري سحيق الغور في الثقافة الإنسانية، ذلك كله يسمح بتسييج الزمن الشعري في هذه التجربة، ضمن الزمن الرومانسي كما استوعبته الثقافة العربية الحديثة لأن هذا الزمن ظل إذا استثنينا تجربة جبران، منفصلاً، من حيث الخلفية الموجهة له عن تجربة مثيليه الألماني والفرنسي... وذهب الناقد الأردني فخري صالح إلى أن شعر الشابي الذي تحدر من شعرياتٍ مختلفةٍ إنما هو بحث ممض من أجل القبض على «العلاقة العضوية التي تلحم التاريخ بالوجود»، وامتلاك «النار البرومثيوسية» والظفر ب «المعرفة الأزلية». ذلك أن غاية الشابي، جرياً على المبدأ الرومانسي، هي «تحويل مادة الواقع إلى شعرٍ طالع من فعل الخلق، بصفته وظيفة الروح والعقل، في محاولةٍ للعثور على وحدةٍ سرية خفية ملغزة بين العقل والواقع». في هذا السياق من التعلق بالشعرية الرومنطيقية والإقامة في حدود التعبير المثالي عن العالم وتجربة الوجود، يبدو الشابي في الظاهر، لا على الحقيقة، بعيداً كل البعد من تجربة الشاعر الحديث، ويبدو نصه منبتاً عن حاجات الشعر في الوقت الراهن. لكن هذه القراءة تبقى في رأي فخري صالح، غير تاريخية لأنها تسقط من حسابها «تاريخية العلاقة بين النص الشعري وزمنه، بين الشاعر وسياقه الثقافي». والواقع أن نص الشابي «كان علامة فارقةً في نقل مفهوم الشعر ووظيفة الشاعر من تقليد الميراث الشعري إلى البدء من جديد». في هذا القطع مع التقليد تكمن حداثة الشابي الشعرية والثقافية، أي في دوره التاريخي في تحويل مسار الكتابة الشعرية العربية، وتفتيح الأعين على نصٍ مغاير، خلاقٍ يقوم على مبدأ الانقطاع والتجاوز لا على عقيدة المحاكاة والتقليد والإيمان بثبات العالم «وهذا ما ينبغي أن نستبقيه من الشابي، في زمانٍ يتقهقر فيه الشعر، ويضعف الخلق، ويعاني العرب وجوداً مأزقياً يكاد يعصف بهم». وأكد الناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي أن الشابي كان من أوائل الشعراء الذين فتحوا الواقعي على الخيالي، والخيالي على الأسطوري، فكف الشعر «عن كونه مجرد وصفٍ ليصبح عبارة عن كشفٍ لما تستر وتحجب»، مع الشابي أصبح الشعر لا يصف الواقع وإنما ينتشل الأشياء والموجودات مما طاولها من إفقارٍ فيثريها ويعيد إليها حقيقتها التي نسيها الإنسان المعاصر لأنه إنسان ضائع في الموجود، شغله هذا الموجود عن صميم الوجود فلم يعد يرى الحقيقة المحجبة. الناقد البحريني علوي الهاشمي اعتبر الحداثة «تأسيساً لذاكرةٍ جديدةٍ تنطلق خارج الذاكرة القديمة»، مؤكدًا أن براعة الشابي تكمن في لعبة اللغة يفككها ويؤسس بها ومنها وفيها حداثته، وتتجلى هذه البراعة أقوى ما تتجلى في الإيقاع... هذا الإيقاع هو الذي يسر للشابي، في نظر علوي الهاشمي، الوصول إلى الوطن العربي. ثم ألمّ الناقد بعد ذلك بوجوه المناسبة التي تجمع بين شعر الشابي وشعر علي العريض، الشاعر البحريني، وهذه الوجوه بحسب عبارته، غير خافيةٍ وتقع في أكثر من مفصلٍ. ونبه الناقد السوري ثائر ديب إلى ضرورة مراجعة الكثير من المسلّمات حتى نستطيع الإحاطة بحداثة الشابي، من هذه المسلّمات اعتبار رومانسية الشابي رومانسية «غربية» تحدرت من التقاليد الأدبية الأوروبية لفظاً وعبارةً وأسلوباً و «دعوةً إلى الطبيعة وإصغاءً إلى النفس». والحال أن رومانسية الشابي قد ظهرت في سياقٍ مختلفٍ تاريخياً واجتماعياً وثقافياً عن سياق الرومانسية الأوربية. للشابي رومانسيته المخصوصة التي قالت لحظته التاريخية، وتجربته الروحية، رومانسية تشكلت ملامحها من شعريات مختلفةٍ قادمةٍ من أزمنةٍ كثيرةٍ، وينابيع شعرية شتى. وتأمل الناقد التونسي عمر حفيظ ممارسة الشابي الكتابية، وهي، كما نعرف، ممارسة متعددة جمع فيها أبو القاسم بين كتابة الشعر والتأمل النقدي والتفكير في بناء الخطاب الشعري... لكن الأمر الذي لفت انتباه الناقد هو إقدام الشاعر على محاورة الأدب العربي القديم ومساءلته. ولهذا التوجه رمزيته، فالمنجز الذي خصه الشابي بتأملاته هو الشعر العربي القديم وهذا يعني أن سؤال الشعر يحتاج، باستمرارٍ، إلى إعادة بناءٍ بما يقتضيه الزمن المعرفي من تعيينٍ للحدود، وترتيبٍ للعلاقات بين الإنسان واللغة والعالم... هذا إلمام سريع ببعض الأوراق التي قدمت في هذه الندوة والتي أجمعت كلها على أن شعر الشابي كان اكتشافاً للزمن في صيرورته وتحوله... وفي هذا خروج على منطق الدهر وفكرة الجواهر الثابتة، وانتساب إلى منطق التاريخ والأعراض المتحولة.