يقول الزبيدي في«تاج العروس»: الإِمَّع والإِمَّعة: هو الرجل الذي لا رأي له ولا عزم، فهو يتابع كل أحد على رأيه ولا يثبت على شيء» ، ولا نظير له إلا رجل إِمَّر، وهو الأحمق. قال الأزهري: وكذلك الإِمَّرة، وهو الذي يوافق كل إنسان على ما يريده... وقيل: الإِمَّعة: المتردد في غير صنعة، الذي يقول: أنا مع الناس» . يقول ابن فارس: «رجل إِمَّعة: هو الضعيف الرأي القائل لكل أحد أنا معك» . ويقول الزبيدي في «تاج العروس» أيضاً: «والمَعْمَيُّ: الرجل الذي يكون مع من غلب، يقال معمع الرجل: إذا لم يحصل على مذهب، كأنه يقول: لكل: أنا معك» . يقول الحق تعالى: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء). يقول الطبري في تفسيره» جامع البيان عن تأويل آي القرآن»:«عنى بذلك: أن المنافقين متحيرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنهم حيارى بين ذلك. عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، لا تدري أيتهما تتبع» . وفي حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «اغدُ عالماً، أو متعلماً ولا تكن إِمَّعة» . وفي حديث آخر له: «كنا في الجاهلية نعدّ الإِمَّعة هو متَّبع الناس إلى الطعام من غير أن يُدعى، وإن الإِمَّعة فيكم اليوم المُحقِب الناس دينه» . معناه المقلد الذي جعل دينه تابعاً لدين غيره بلا رويَّة ولا تحصيل برهان.وفي سنن الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا إِمَّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا» . وفي «الأمالي والنوادر» لأبي علي القالي: «عن الحارث الأعور قال: سُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن مسألة، فدخل مبادراً، ثم خرج في رداء وحذاء وهو مبتسم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنك كنت إذا سُئلت عن المسألة تكون فيها كالسكة المحماة، قال: إني كنت حاقناً، ولا أرى لحاقن، ثم أنشد يقول: إذا المشكلات تصدين لي/كشفت حقائقها بالنظر. لساني كشقشقة الأرحبي/أو كالحسام اليماني الذكر. ولست بإمعة في الرجال/أُسائل هذا وذا: ما الخبر؟ ولكنني مذرب الأصغرين/أُبَيِّنُ مع ما مضى ما غبر. وقال الشاعر: لقيت شيخاً إِمَّعة... سألته عما معه... فقال: ذَودٌ أربعة». مناسبة هذه المقدمة هو ما لفت نظري من خلال متابعتي لآراء بعض الإعلاميين، والكتّاب، والصحافيين، والمثقفين العرب على اختلاف مشاربهم وعقائدهم، والصحف التي يكتبون فيها، والاتجاهات العقدية والفكرية التي ينتمون إليها، على مدى الأعوام الماضية. أن بعضهم ظن أن القرّاء ربما قد نسوا ما قرؤوه لهم، وما سمعوه منهم من آراء، عبر وسائل الإعلام المختلفة، بسبب تقادم الزمن على كتاباتهم. في مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان معظم الكتّاب والصحافيين يمجدون ويهللون للأنظمة اليسارية. وكان معظمهم معادياً للتطبيع مع إسرائيل، ومؤيداً للأنظمة الثورية وحركات المقاومة في العالم. وقبل أن يجف حبر توقيع الرئيس الراحل أنور السادات معاهدة التطبيع مع إسرائيل، قلب كثيرون منهم ظهر المجن، وانبرى أكثرهم يُطبل ويزمر للسلام والتطبيع مع إسرائيل. ومن المضحك المبكي أنه في إحدى السنوات تأزمت العلاقات الديبلوماسية بين مصر ودولة عربية أخرى. فكان رئيس تحرير إحدى الصحف المصرية يكتب في عموده اليومي، مقالات يهاجم فيها رئيس الدولة التي توترت العلاقات معها. ولسوء حظ هذا الصحافي، شاء الله تعالى أن تتصالح مصر مع تلك الدولة بعد أسبوعين فقط، بل والأنكى من ذلك، شاء الله أن يُرسل رئيس التحرير نفسه مع وزير الدولة المصري، حينها، لحل المشكلات العالقة، ولإعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين. ثم عاد إلى مصر فكتب من المديح وبطولات ذلك الرئيس العربي، رحمه الله، ما لم يقله أبو فراس الحمداني في سيف الدولة الحمداني. وما لم يقله الأخطل في عبدالملك بن مروان، وما لم يقله زهير في هرم. بعد الاستقرار الأمني الذي شهده لبنان بعد حرب دامت 15 عاماً، ولكثرة تغيير الأحزاب اتجاهاتها السياسية ومبادئها الحزبية، وتنقلها بين طرفين متصارعين. أخذت الكتابات الصحافية تسير وفق أهواء الأحزاب لا وفق قناعات كتّابها والتزامهم بمبدأ حقيقة الرأي وثباته. فيلاحظ أن كثيراً من الكتّاب غيّر اتجاه قلمه 180 درجة. أما في المملكة العربية السعودية، فقبل سنوات عدة، كنا نقرأ مقالات وتصريحات صحافية لبعض الكتّاب والمثقفين والمشايخ تعدّ قمة في التشدد والتطرف الديني. بل قد نشرت كثير من المقالات التي تؤيد الجهاد، وتؤازر المجاهدين العرب في أفغانستان خلال وجود القوات الروسية فيها. فيما يلاحَظ على معظم كتابات هؤلاء أنفسهم، في الوقت الحالي، الاتجاه المعتدل والمتسامح، بل والعلماني أحياناً. فنقرأ لهم عن الوسطية في الإسلام، وحق الآخر، وحق المرأة... الخ. إخواننا في فلسطين، على رغم قلة وسائل الإعلام وندرة الصحف والمجلات عندهم، بسبب مشاغلهم في قضاياهم مع إسرائيل، إلا أن الذبذبة وتغيير المبادئ كانت واضحة في تصريحاتهم وكتاباتهم عبر وسائل الإعلام من خارج الأرض المحتلة. فحين كانت منظمة التحرير الفلسطينية، وغيرها من المنظمات الفلسطينية في سورية كان ميل الكتابات والتصريحات مؤيداً للنظام السوري. وحين خرجت من سورية انقلب كثير منهم ضده. وحين كان النظام السوري يضطهد الإسلاميين في السبعينات، كان الكتّاب والمثقفون الفلسطينيون الذين لهم توجه إسلامي يهاجمونه من الخارج. وحين أصبح مقر بعض المنظمات الفلسطينية وزعمائها التي لها توجه إسلامي وجهادي في سورية، انقلبت الصورة، فصار المتابع لتصريحاتهم وكتاباتهم يلحظ التأييد المطلق للنظام السوري في كل ما يصدر عنه من توجهات سياسية. * باحث في الشؤون الإسلامية.