لا تنقل الكتابات التاريخية والرسمية في حال النزاع إلا رواية واحدة، هي رواية المنتصر أبداً، لذلك فإننا نحكي عن حال نادرة من حالات تحويل الهزيمة إلى نص جمالي فاتن، يحكي عن الزاوية التي لم تصادفنا كثيراً، الزاوية التي تنظر بها عين المهزوم! نتكلم عن رواية "ساق الغراب" للروائي يحيى أمقاسم. في شكل مغاير، نبدأ القراءة من خلال الإشارة الدالة جداً على الحال التي مثلها الصراع بين صاحب الأرض، ذي الهوية الممتدة جذورها في عصيرة، القرية العاصمة لوادي الحسيني/ جنوب الجزيرة العربية، وبين الداخل الجديد إلى الأرض، الذي يحمل مشروعاً مختلفاً يرغب في إحلاله بديلاً عن الهوية القائمة، يحضر رمز الهوية ماثلاً في الطقس الختاني الذي يؤديه أهل المنطقة حال بلوغ الصبي مآل الرجال، الهوية التي يُعمل الغريب في نزعها من خلال توجيهاته الصارمة بمنع أداء الطقوس، بذريعة الدين حيناً، وبتلويحة السيف الذي سيطبق على رؤوس العباد لاحقاً، كما يحكي النص، ولم أستخدم الدلالة إلا لأبين كيف استحال هذا الطقس- الذي لم يعاينه الكاتب في حياته- إلى حال جمالية من طراز فريد، يستحضر فيها تفاصيل الختان، وكأنه قد أمسك بكاميرا عالية الدقة، ليرصد أدق اللحظات التي تم بها، حاملاً أجواءه في لغة متخمة بقيم ذلك الزمن، فيدفع بالمجد، والهوية، والشجاعة، ورباطة الجأش، والرفض، ربما باعتباره قيمة ضرورية لا تبالي في حال النزاع القيمي الذي يعيشه إنسان القرية بما هو آتٍ من النتائج، ولو كلفه الأمر حياته! إن هذا المستوى من التمسك بالقيمة ينتج فيما يبدو لدى (حمود الخير) نتيجة لحال التهديد التي تتعرض لها هويته، فالذين يشعرون بالقلق حيال ثبات حياتهم ينتفضون دائما ضدّ كل علامة تشير إلى تبدل الحال، ويبذلون ما لا يظنون أنهم قادرون على إتيانه في استقرارهم ورغدهم، ولو كان ثمن الحفاظ على رسوخ الحال هو الحياة ذاتها! إن ضخامة الحكاية وثبات مجراها، تجعل من المستحيل حصر المواضع التي تفجّرت فيها ينابيع الفتنة، فما بين "إذ يقفون بأسمالهم المبللة وبنادقهم ترهقها قطرات المطر" و"عذوبة الليل التي تذهب بهم إلى ذكريات قديمة" وما بين إشعال النيران العظيمة، ورش الرحى بقطرات الماء كي يرى القمر المخسوف طريقه فيها، تكمن حياة تم وأدها لأغراض خبيئة أولاً، ثم صارت إعلاناً غير قابل للطعن والجدال، من دون أدنى التفاتة إلى ما يمكن أن تؤول إليه حياة بأكملها، فالناس الذين تبددت آمالهم في مجابهة الداخل الجديد، صاروا يعلنون باكراً رفضهم للتغيير، لنغرق في عذوبة جديدة يؤديها اليائسون من الحياة. عذوبة ما زالت عذراء على عيون القارئ العربي، إذ يتوجهون تباعاً إلى الشيخ وأمه، يستأذنونهم في الموت! إنها الأدوار حين تستبدل، فيصبح الموت حالاً إبداعية لاستمرار الحفاظ على الصورة الأخيرة للجمال قبل زواله، وللزجاج الشفاف قبل خدشه بإزميل التغيير، ولا بد لنا من باب الإنصاف أن نفرق بين التغيير والتطوير في هذه الحال، فالرفض في حال النص لا يمثل صداً لمدّ حداثي، ولا يقف عقبةً في سبيل عملية نهضوية، بل يفصح عن نفسه كنوع من مقاومة اجتثاث الجذور فقط! أبطال العمل ليسوا أشخاصاً مثاليين، ولا يمكننا التنبؤ بسهولة، إن كان فيهم جانب من الشر خفي أو أنهم على ما فيه في خير مطلق، إذ يسهب امقاسم في صبغهم بالمحمود من الصفات والمواصفات والأفعال، وفقاً لأحداث الحكاية الطويلة التي لا تشبهها الحكايات، وكما لا يبدو الكاتب حيادياً مع شخوصه، فإن إعجابه الجليّ بما ينثرونه من الحُسن والعفوية يقودنا لتتبع ما يبرر هذا الإعجاب، لنجد قائمة تطول: فهناك (بشيبش) الكائن الأسطوري الذي رفض أن تهزم قريته وهو موثق إلى سرير خالته (صادقية) فغادرها إلى حيث لا يرى النهاية التي لا تروقه لعنفوانه/مجد عصيرة. ولا يرحل رحيل المخذول، إنما رحيل من ينجو بالجمال من الذكريات المزعجة التي تشوبه، وهو إذ يقرر الذهاب يقدم طقساً غرائبياً آخر لا يخلو من صيغة الفتنة، حين يلعق قدمي طفلته دافعاً إياها إلى عدم الانزعاج من رحيله، إذ كان الراحلون يعتقدون بأن فعلهم هذا يمسح ألم الغياب! وهنا صادقية الأم التي تقف خلف ابنها شيخ القبيلة، توجهه كما لو كان سهماً نافذاً لتعليماتها، وتدير الحصاد، والمخزون، والرجال والنسوة، متمتعة بكل صلابة القادة، من دون أن نغفل عن تعريض بشيبش الدائم لها برغبة جسدها المكبوتة غالباً، النافرة نادراً في ملامحها الملكية الجميلة، ومن دون أن نسهو عما تحمله بصيرتها من قدرة على استشراف النوازل، والتدبير الحكيم لكل ما يطرأ على القرية من أحداث، وهناك (عيسى الخير) شيخ القبيلة الحيّ، الذي يدرك الأمور قبل وقوعها فيطلب إلى خادمه الذي كان يمازحه قبل قليل ما لا يسرّ به السيد إلى عبده! ويجهزه للموت قبل أن يقع، ويتشبث بحياته بين يدي أمه وهو على فراش الموت، يراوغها ليحصل على وقت خارج قدره المكتوب، ثم يستحيي من الاستمرار حياً وقد سبقه إلى الموت كل رفاق دربه ومعاصري مجده، الذين غادروا قبل الأفول، وفضلوا الحصول على رخصة الموت قبل أن تنتهي أسطورة عصيرة! إنهم جميعاً مزيج غرائبيّ التركيب، معقد الصيغة، لا تجد مثلها كثيراً، ولا تملك إلا الانحياز لجمالها، كما تنحاز لجمال رقصهم، وليالي سمرهم، والأغنيات البديعة التي أجهد امقاسم نفسه في تفسيرها، ومحاولة تقريبها إلى بساطة القارئ، على رغم أنها تنضح حساً لم يكن في حاجة إلى كثير تعبٍ ليلمس أرواح القارئين، قبل أن تندمج مع أهالي القرية في حلقة الرقص! "ساق الغراب" ليست عملاً حِرفياً، وحين نشير إلى المران الذي بذله امقاسم للخروج بهذا الكتاب البديع، فإننا نتحدث عن اجتهاد المبدع الذي ينحت تمثالاً لكي يتمثل ألم الصخر، لا عن تعب الصانع الذي يتخلص من آثام صنمه، يفاجئنا بالجمال من كل جانب، وكأنه يشن حرباً زمنية مضادة بالكتابة، تشبه الحرب التي سُرق فيها جمال القرية وانتهك، يحاول أن يعيده بالجمال، إنه لا يبكي على فردوس كان، فهو يمجد الزمن الذي كان فيه الجمال حاكماً ونمط حياة! لا يشين العمل ولا ينقص من روعته التماهي الخفي، الذي تشي به السطور بين "ساق الغراب" و"مئة عام من العزلة" للكولومبي ماركيز. فثمة رابط شفيف بين ماكوندو الخيالية التي احتوت حياة حقيقية لم تعد موجودة، وبين عصيرة الحقيقية التي احتوت خيال امقاسم بأقصى ما يمكنه استجلاب الماضي، وثمة براعة حقيقية في التشبع بتقنيات الواقعية السحرية، وتحويلها إلى قالب نقي اجترحه امقاسم ليمنح عمله تقنية الإنباء بالكارثة قبل حلولها، مع الاحتفاظ بكمّ من المفاجآت، والربط بينها وبين التقنية النابهة في تصوير المشهد من زوايا عدة، كمشهد انتحار حمود العابث، الذي سنراه مرة أخرى بعيني شريفة بنت الأرض التي صارت بنت الرجال! هذه هي "ساق الغراب"، النص أو الأرض، لا فرق: روح دافقة في الكتابة، وزمن يحلم المارُّون به لو أنه لم يكن حلماً، وفجيعة ضخمة، تشبه فجيعة شريفة التي تسأل بصدق شفيف وصامت، عن القرية التي امّحت معالمها وكأنما ابتلعتها الأرض الغاضبة، وكأنها لم تكن يوما..!