بريان ويتاكر صحافي بريطاني دفعته «حشريته» ويساريته الى النظر في واقع منطقة الشرق الأوسط لاستكشاف نقاط الخلل «الحقيقية» فيها. كسائر الإعلاميين اليساريين في هذا البلد، رفض ويتاكر الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والتدخلات الخارجية لحفظ مصالح الغرب وانتقدها بشدة في مقالات جريئة في جريدة الغارديان حيث كان المحرر المسؤول فيها عن المنطقة لسبع سنوات، ويدير اليوم موقعاً لها لمقالات الرأي. إلا أن مجرى الأحداث خلال العقدين الماضيين أثبت له أن هذه التدخلات والاحتلال ليسا كافيين لإنتاج ما تقبع فيه المنطقة من مشكلات تعصى على الحل. لذا ارتأى الغوص في وحولها المحبطة لتحديد ما يعتبره أسباباً رئيسية اجتماعية وسياسية لحالها اليوم. ولكن لماذا يهتم صحافي بريطاني بالتغيير في المنطقة؟ الجواب، كما يورده ويتاكر في مقدمة كتابه «أين الخلل الحقيقي في الشرق الأوسط»، هو أن الفوضى والعنف اللذين أعقبا غزو الولاياتالمتحدة العراق عام 2003 بهدف «تغيير النظام»، وهي سياسة تبنتها واشنطن منذ إقرارها قانون «تحرير العراق» عام 1998، أظهرا أن التغيير، الإيجابي طبعاً، في الشرق الأوسط مسألة أكثر تعقيداً مما يعتقد كُثر. فهو لا يرتبط فقط بوقف التدخلات الخارجية أو اسقاط أنظمة ديكتاتورية أو انهاء الاحتلال، بل يتعدى ذلك إلى التركيبات المجتمعية وأنظمة التعليم والثقافة. ولذا يفتتح ويتاكر كتابه بعبارة «إذا كان التغيير الإيجابي سيأتي إلى المنطقة، يجب أن تنجلي سحابة القدرية والتسليم المخيمة فوقها». ويشير الى مقاومة بعض الشعوب مبادرات الإصلاح السياسية والاجتماعية، ولا سيما ما يتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة. وبحسب ما يورد في المقدمة، فإن المؤلف يرمي من وراء كتابه هذا إلى الإسهام في جدلين منفصلين لكن على صلة في آن. الأول بين العرب أنفسهم حول التغيير، وهو حوار ما زال مجهولاً في الغرب، وتقوضه العادات والمحرمات في الشرق. أما الثاني، فيتعلق بالسياسة الغربية تجاه الشرق الأوسط. هنا يشير ويتاكر تحديداً الى الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما والآمال العالية المعلقة عليه سواء لجهة التغيير في المنطقة أو تحريك العملية السلمية. وفيما يقر بصعوبة مهمته وحدودها، يعيد التأكيد على أن الهدف المتواضع للكتاب هو تقديم مشكلات الشرق الأوسط في اطارها الأوسع بدلاً من النطاقات الضيقة المنتشرة في الغرب. وبعكس معظم الساسة والأكاديميين الغربيين، فإن هذا الصحافي البريطاني لم يعتمد على القادة والسياسيين العرب لإجراء مقابلات في اطار إعداد كتابه، بل استمع الى أفراد مستقلين شكلوا آراءهم الخاصة حول مشكلات بلدانهم ومجتمعاتهم، وبينهم كتاب وأكاديميون ومدونون وصحافيون وأطباء علم النفس وناشطون. يعرج ويتاكر في الفصل الأول من كتاب «أين الخلل الحقيقي في الشرق الأوسط»، على قضية التعليم في العالم العربي، إذ وجد فيه خللاً في تشكيل نواة التفكير الحر والنقاش والفردانية. منير طالب حقوق في جامعة القاهرة حيث الدوام ليس الزامياً نتيجة ازدحام صفوف الدراسة. صف منير وحده يضم في كلية الحقوق سبعة آلاف طالب غالبيتهم لا تلتزم الدوام بل تخوض الامتحانات فقط ثم تحصل تلقائياً على عضوية النقابة بعد نجاحها أربع سنوات من الدراسة. إلا أن المشكلة الأساس، وفقاً للكتاب، تكمن في طريقة التعليم المعتمدة على التلقين وأخذ رأي الأستاذ دون نقاش. الطالب «منير» يشير الى أن قليلاً من الطلاب يشتري كتب المنهاج، بل يعتمدون عوضاً عن ذلك على كتيب يضم مجموعة آراء الأستاذ في كل مواضيع المنهاج، ويحفظونها للإجابة بها عن أسئلة الامتحانات. فرأي الأستاذ يصير مقدساً وبالتالي غير خاضع للنقاش، وكأن هدف التعليم التوكيد على احترام السلطة وقمع حرية الفرد مقابل تقديس رأيها. خالد دياب نموذج آخر للطالب الجامعي. فخلال دراسته مادة الاقتصاد في مصر، تعلم عدم طرح كثير من الأسئلة والاستعاضة عنها بتدوين الكلام الحرفي للأستاذ لضمان الحصول على علامة جيدة. إلا أن خالد كان يسأل الأستاذ مشككاً في طريقة تفكيره وتحليله للمادة، ما انعكس سلباً على علاماته. هذا الأسلوب في التعليم معاكس لما هو سائد في الغرب حيث يعد الإسهام في نمو التفكير الحر والفردانية أحد أساسات التعليم منذ السنوات الأولى. وعلى رغم أن الحالات والأمثلة التي يوردها ويتاكر قد تبدو للوهلة الأولى غير كافية للخروج باستنتاجات عامة، إلا أنه يعود ويدعّمها بتقارير دولية وعربية عن الوضع التعليمي بينها تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004 وتقرير للبنك الدولي. وهذا التقريران الصادران عن الأممالمتحدة ينتقدان أسلوب التعليم الذي يؤسس للبنية التقليدية للمجتمعات العربية. ويتاكر فيذهب الى أبعد من ذلك في اعتباره أن «التعليم في العالم العربي هو نقط التقاء أبوية هيكل العائلة التقليدية وتسلط الدولة ودوغماتية الدين، وهو ما ينعكس سلباً على الفكر والتحليل النقديين ويخنق الإبداع ويغرس الاستكانة والخضوع. قد يبدو كلام ويتاكر قاسياً للوهلة الأولى، إلا أن التقرير الدولي الآنف الذكر لم يكن أقل وطأة إذ جاء فيه أن أسلوب التعليم في العالم العربي «يُضعف القدرة على انتاج وجهات نظر معارضة والتفكير الخلاق». بل يقتصر دوره في المجتمع «على استنساخ التحكم في المجتمعات العربية». فصول الكتاب مليئة بالأمثلة على مكامن الخلل في التركيبة والمفاهيم الاجتماعية، ولا سيما التسلط والنزوع نحو السيطرة، والعنصرية المبطنة والعلنية، ودور العائلة والوراثة في مجتمعاتنا وغيرها. إلا أن ويتاكر يخصص الفصل الأخير الذي أطلق عليه عنوان «الفرار من التاريخ» لمناقشة ما اعتبره خللاً مهماً، ألا وهو عقلية الضحية السائدة في العالم العربي. ويبقى السؤال الأساسي والختامي بالنسبة الى هذا الصحافي ليس ما إذا سيتحقق التغيير أم لا، بل متى؟ وهل سيستغرق سنوات أو عقوداً أو قروناً؟