لا يكاد يهدأ بال الحي المنكوب حتى تطفو جثة أخرى. وكلما وارى سوأة مأساة، لا تمهله أخرى أن يلتقط أنفاسه. ضرب السيل حي«قويزة»، ولم تحل الكارثة دفعة واحدة، لكنها تتتابع، كلما حلت واحدة فاقت سابقتها. قصص تحفر في القلب الأسى الأبدي. أبطالها هم ضحاياها! المقيم المصري شاكر ذياب حسين كان شاهداً على غرق زوجته ووالدته، تاركتين له رضيعين توأمين، وطفلة في الثانية من عمرها، أصبح يرى المأساة والألم فيهم، يهيم برضيعيه بين المنازل بحثاً عن مرضعة تطفئ الظمأ الذي يجتاح الصغيرين. كشرت الدنيا عن أنيابها البشعة في وجه حسين عندما غرقت الأم، وحار بين إنقاذ والدته العجوز وطفليه الرضيعين. قطع السيل الأنفاس، لكنه شهد على قسم الجدة أن تغضب على ابنها لو فكر بإنقاذها عوضاً عن طفليه. هكذا كان عليه أن يختار بين خيارين أحلاهما أشد مرارة من الآخر. يؤكد حسين أن صورة الموت ومنظر زوجته وأمه لا يبرحان مخيلته، متسائلاً عن مصير رضيعيه التوأمين وطفلته في غياب أمهم. حسين ليس وحده. حشود المآسي تتدافع. الطفلة زينب أرهقت ذويها مرتين، مرة بفقدها، وأخرى بالبحث عن جثتها. انزلقت من يد والدها المسلم الأميركي أحسن عباس في مياه السيل، بعدما تمكن مرافقون من إنقاذ زوجته وطفليه الآخرين. استطاع شاب سعودي شجاع الإمساك بزينب ذات السنوات الثلاث من براثن السيل الجارف. لاح بارق الأمل لحظة. كان الأب عباس يحاول عبور السيل حاملاً ابنه بلال، فيما كان الشاب السعودي يحمل زينب، لكن الأخير تعثر وسط الحطام الذي جاء به السيل، وبدأت زينب تبتعد مع مياه السيول، حتى اختفت. مات الأمل إلى الأبد، وبقي اليأس الأسود، والبحث عما بقي من فلذة الكبد. بعد بضعة أيام من البحث والقلق والانتظار ومشاوير الجيئة والذهاب إلى ثلاجات الموتى في مستشفيات جدة، وجد الأب طفلته الغريقة ليدفنها ولينغرس في نفسه ألم لن يندمل. في كل ركن من أركان قويزة ستجد من يحكي قصة يشيب لها شعر الرأس: أخ كان يتبادل حديثاً ودياً مع شقيقه بعدما تناولا طعاماً شهياً. جاء السيل فاختفى الشقيق. وبدأت رحلة انتظار مؤلمة انتهت بالعثور على الجثة بعد 4 أيام. أزواج اختفت زوجاتهم. آباء اختفى أطفالهم. أبناء فقدوا آباءهم. مآس ستبقى مغروسة في ذاكرة ذوي الضحايا حتى يحين وقت لحاقهم بالأعزاء الذين ذهب بهم السيل الغادر.