تشهد منطقة الشرق الأوسط حركة نشطة لما يمكن أن نطلق عليه الديبلوماسية النووية وذلك على خلفية ما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، ويمكن تحديد أهم مسارات الديبلوماسية النووية في الشرق الأوسط خلال هذه المرحلة على النحو الآتي: أولاً - المسار الذي يحاول إعاقة التوصل لاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني، أو تعطيله لأطول مدة زمنية ممكنة، وذلك حتى يتم توفير الضمانات الكافية للحيلولة دون قيام إيران بإنتاج سلاح نووي. وتقدم إسرائيل النموذج الواضح لذلك المسار، فالضغوط الإسرائيلية ظلت متواصلة على إدارة الرئيس أوباما منذ انطلاق عملية التفاوض ووصلت إلى الذروة في الثالث من آذار (مارس) 2015، عندما ألقى نتانياهو كلمة أمام الكونغرس انتقد فيها بشدة الاتفاق الذي تتم بلورته بين إيران والدول الكبرى، واصفاً إياه بالاتفاق السيئ، ومضيفاً أن الحرب ليست بديلاً، لكن البديل يتمثل في اتفاق أفضل لا يسمح لإيران بتطوير سلاح نووي. وقلل أوباما مما جاء في خطاب نتانياهو، وذكر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يقدم أي بديل أمام الكونغرس لخطة الاتفاق الحالي بخصوص الملف النووي الإيراني، وأضاف أن هذا الخطاب «لم يقدم أي جديد»، مشيراً إلى أنه «من المهم أن نبقى مركزين على المشكلة، والسؤال المطروح هنا كيف يمكننا منع إيران من امتلاك سلاح نووي؟»، وأشار إلى أنه إذا تم التوصل إلى اتفاق، فسيكون أفضل إطار لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. في حين وصف المسؤولون الإيرانيون الخطاب بأنه مجرد هراء، ورأى التيار المتشدد الذي عبر عنه رئيس تحرير صحيفة «كيهان» الإيرانية أن ما يقوم به رئيس الوزراء الإسرائيلي هو مجرد توزيع أدوار مع حليفه الأميركي من أجل الضغط على فريق التفاوض الإيراني لتقديم المزيد من التنازلات، وهو ما لن يحدث. وحاول أعضاء الكونغرس وضع تشريع يلزم الرئيس بالرجوع إلى الكونغرس قبل التوقيع على أي اتفاق مع إيران، وهو ما رفضه الرئيس باعتباره يمثل انتقاصاً لا مبرر له من سلطاته. والواضح أن الرئيس الأميركي أوباما لديه إصرار شديد للتوصل إلى اتفاق في شأن الملف النووي الإيراني، باعتباره سيمثل الإنجاز الكبير الذي سينسب إليه في الشرق الأوسط في ظل الفشل القائم بالنسبة إلى الملفات الأخرى ويدعم من موقفه أنه لا يملك ما يخسره بعد ولايته الثانية، وهو ما ذكره علناً في حديثه مع أعضاء الكونغرس يوم إلقائه خطابه السنوي عن «حالة الاتحاد» في كانون الثاني (يناير) الماضي، ومن ثم فالتحرك على هذا المسار قد لا يحقق ما هو مستهدف، وإن كان قد يؤثر في شكل جزئي في بعض الجوانب المتعلقة بصياغة الاتفاق في صورته النهائية، وذلك حتى يمكن توفير النصاب المطلوب لتمريره في الكونغرس. ثانياً – المسار الثاني لتحرك الديبلوماسية النووية، يتمثل في السعي لاكتساب أكبر حصة ممكنة من السوق النووية في المنطقة، بعد تزايد الطلب القائم والمحتمل ارتفاعه بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني، على الخدمات النووية بمختلف أنواعها سواء للأغراض السلمية، أو لأغراض تحقيق التوازن الاستراتيجي، والملاحظ أن التحرك الديبلوماسي الروسي هو الأبرز في هذا المجال، حيث إن موسكو ترى أنه سواء تم توقيع الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني أو انهارت المحادثات، فإن هناك فرصاً متزايدة لبناء مفاعلات نووية في الشرق الأوسط، فامتلاك إيران القدرات النووية سيدفع الدول الأخرى إلى السعي للحصول على قدرات مماثلة لتحقيق التوازن. كما أن المنطقة تشهد تزايداً واضحاً في استهلاك الكهرباء والمياه، وهو ما يفرض على دولها الدخول إلى مجال إنتاج الطاقة النووية لتوفير الاحتياجات المتزايدة من الكهرباء وتحلية المياه، والواقع أن موسكو من أنشط اللاعبين في سوق الطاقة النووية في الشرق الأوسط، حيث وقعت اتفاقات تعاون لاستخدام الطاقة النووية في المجالات المدنية مع إيران والجزائر ومصر والأردن وليبيا وعمان والكويت وقطر وسورية وتركيا وغيرها، ما عدا إسرائيل، لأنها لم توقع على اتفاق حظر انتشار الأسلحة النووية. والملاحظ أن هذه الاتفاقات تشمل الدول الصديقة للاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة والدول الكبيرة والصغيرة وتلك التي تعاني من العسر المالي، والتي لا تعاني، وكذلك الدول التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي، وهو ما يعكس الرؤية الروسية لنطاق واسع من السوق لحركتها. وتستفيد روسيا من بعض أوجه التشدد الأوروبي والأميركي في الجوانب الإجرائية للتعاون مع الدول الأخرى في المجال النووي، حيث يظهر البديل الروسي بصفته البديل المتاح للكثير من دول الشرق الأوسط. وتأتي فرنسا لتحتل موقعاً مهماً في السوق النووية الشرق أوسطية، فقد أوضح برتران بزانسنو، السفير الفرنسي لدى السعودية، أن المفاوضات بين الأخيرة وفرنسا، في مجال بناء المفاعلات النووية ما زالت مستمرة. وتدخل كوريا الجنوبية في سياق الديبلوماسية النووية في الشرق الأوسط عبر تحركها النشط في مجال إقامة المفاعلات النووية في دول الخليج العربية، حيث وقعت دولة الإمارات في 2009، عقداً مع ائتلاف تقوده شركة الكهرباء الكورية الجنوبية بقيمة 20.4 بليون دولار لبناء أربعة مفاعلات نووية في موقع «بركة»، غرب إمارة أبو ظبي، وستنتج المفاعلات 1400 ميغاواط، كما وقعت اتفاقات بثلاثة بلايين دولار مع شركات عالمية لتأمين الوقود النووي للمفاعلات لمدة 15 سنة. وأثناء زيارة رئيسة كوريا الجنوبية السعودية في آذار 2015، تم التوقيع على مذكرة تفاهم حول برامج التعاون النووي لبناء الشراكة الذكية، والبناء المشترك للقدرات البشرية النووية والبحث العلمي، ووفقاً لصحيفة «كوريا هيرالد»، فإن البلدين وافقا على العمل من أجل بناء أكثر من مفاعل نووي صغير ومتوسط في المملكة، لتعزيز التعاون الثنائي في مجال الطاقة النووية بكلفة تزيد على بليوني دولار. ثالثاً – المسار الثالث للديبلوماسية النووية يدور حول محاولة جذب التأييد للاتفاق النووي الغربي - الإيراني ومحاولة طمأنة الأطراف الإقليمية الأخرى وعلاج الأثار الجانبية التي يمكن أن تنتج منه، ويدخل في هذا الإطار، التحرك الأميركي المتمثل في لقاء وزير الخارجية جون كيري ونظرائه في دول مجلس التعاون في الرياض في الخامس من آذار 2015، ولقائه العاهل السعودي بعد ذلك. وأوضح كيري أهمية التوصل لاتفاق مع إيران في شأن ملفها النووي، حيث يوفر ذلك، على حد قوله، الضمانات الكافية لسلمية برنامجها النووى. وأشار إلى أن الولاياتالمتحدة لا ترغب في الوصول إلى أي اتفاق وإنما ترغب في اتفاق يحقق الهدف الرئيسي وهو عدم إنتاج إيران السلاح النووي، وأوردت «الحياة»، في 5 آذار، أن وزير الخارجية الأميركي طرح في الرياض، خطة تدرسها الإدارة الأميركية لتأمين مظلة نووية لحلفائها في الخليج، تضمن الدفاع عن المنطقة ضد أي اعتداء نووي تشنّه إيران أو أي جهة أخرى، وستكون هذه المظلة، إذا تُرجمَت واقعاً، مشابهة للتي تؤمنها واشنطن لليابان وكوريا الجنوبية ودول الحلف الأطلسي، لحماية تلك الدول من اعتداء نووي، من دون اضطرارها إلى تطوير قدرات ذرية. ولم يصدر عن دول مجلس التعاون رد رسمي يعبر عن موقف محدد تجاه هذا العرض الأميركي، خصوصاً أنه ما زال يتصف بالغموض، من حيث كلفته وتمويله والجوانب الإجرائية اللازمة لإقراره والمدى الزمني الذي سيستغرقه لإنشائه وتفعيله، والمعايير التي سيتم الاستناد إليها لتشغيله ومدى توافر الضمانات اللازمة لتشغيله بعيداً من أي توظيف سياسي محتمل من جانب أي إدارة أميركية، خصوصاً أن التجربة العملية أوضحت لجوء واشنطن إلى استخدام الجوانب المتعلقة بالسياسة الدفاعية كأداة للضغط السياسي، الأمر الذي يضع الكثير من علامات الاستفهام حول مدى توافر الثقة في الوعود والأطروحات الأميركية. وفي المسار ذاته، يأتي التحرك الديبلوماسي السعودي، والذي يختلف من حيث محتواه وأهدافه عن التحرك الأميركي الذي سبقت الإشارة إليه، ويهدف إلى تحقيق مقدار من التوازن الإقليمي مع إيران والناتج من التطورات التي يشهدها ملف العلاقات الإيرانية - الغربية بعامة، والملف النووي بخاصة، وذلك من خلال إعادة بناء التحالفات الإقليمية، وإدخال باكستان وهي قوة نووية إسلامية مهمة في سياق توازنات المنطقة. وفي هذا الإطار جاءت زيارة رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف للرياض في 4 آذار الجاري، حيث أجرى محادثات مهمة مع العاهل السعودي حول المستجدات الإقليمية والدولية وأوضاع المنطقة. والملاحظ أن التفاعلات السعودية الباكستانية لا تتوقف ويؤكد ذلك عدد الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين عن القطاعات الأمنية والاستراتيجية في البلدين خلال العام الماضي على سبيل المثال، والتي توجت بزيارة الملك سلمان إسلام آباد في الفترة التي كان فيها ولياً للعهد في شباط (فبراير) 2014، وتحدثت مصادر باكستانية آنذاك عن مخاوف سعودية مبررة حول الملف النووي الإيراني والدعم الذي تمده هذه الأخيرة للجماعات المسلحة ومنها «حزب الله»، وأنه يمكن باكستان باعتبارها الدولة الإسلامية الوحيدة التي تملك الطاقة النووية، أن تشكل مظلة نووية للسعودية. وكانت مصادر غربية تحدثت عن استمرار التمويل السعودي السخي للمشروع النووي الباكستاني، بهدف توظيف القدرات النووية الباكستانية لتحقيق المقدار المناسب من التوازن الإقليمي مع إيران حال دخولها إلى النادي النووي. * أكاديمي مصري