في السادس من سبتمبر - العام الماضي - قامت مجموعة من "الكومندز" التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي بالتسلل إلى الأراضي السورية، والتمركز قرب مجمع نووي يبعد خمسين كيلومترا عن الحدود السورية - العراقية، وحسب الرواية الإسرائيلية فإن المجموعة تمكنت من اختيار وتحديد الأهداف لتضربها طائرات أف 15إسرائيلية وتدمرها بالكامل. كان من الصعب تصديق هذه الحكاية حين رشحت أول الأمر، فكلا البلدين المعنيين تكتما حول هذا الموضوع، إلى حين أن نشرت النيويورك تايمز سلسلة من التقارير تضمنت معلومات قليلة يبدو أنها كانت مسربة من قبل الإسرائيليين لإحراج سوريا، مما دفع الأخيرة إلى الحديث العلني عن اختراق إسرائيلي للحدود، واستنكار للصمت الدولي حيال هذا الاعتداء. بيد أن القصة سرعان ما تراجعت عن صدارة الأحداث، واكتفت الصحافة الأمريكية والإسرائيلية بالقول إن الهدف كان مخزن تجميع للصواريخ الإيرانية المخصصة لحزب الله، وهو أمر نفته سوريا. ولكن وبمرور شهرين عادت الصحافة الإسرائيلية لمناقشة الموضوع بعد شيوع تسريبات تقول إن إسرائيل لم تضرب تلك الأهداف، وإنما ضربتها طائرات أمريكية - ربما انطلقت من تركيا - ، وكانت الطائرات الإسرائيلية مجرد غطاء للعملية. حينها قيل إن الضربة الإسرائيلية أسهمت في الضغط على السوريين، ودفعتهم لحضور مؤتمر أنابوليس (نوفمبر الماضي) رغم معارضتهم الأولية للمشاركة استجابة لطلب إيراني سابق. خلال الأيام القليلة الماضية، كشفت وكالة المخابرات المركزية (CIA) للجنة في الكونغرس الأمريكي تفاصيل ما ادعت أنه مشروع للتسلح النووي السوري قامت إسرائيل بتدميره في سبتمبر الماضي، وأن كوريا الشمالية - كما حلقة عبدالقدير خان العالم الباكستاني - مسؤولة عن بيع معدات ومخططات لسوريا. ردة الفعل الدولية كانت كبيرة، فالوكالة الدولية وعدت بالتحقق من هذه الاتهامات، فيما شددت الولاياتالمتحدة وعدد من القادة الأوربيين عن قلقهم مما سموه توجها سوريا بمساندة إيرانية لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. سوريا من جهتها تحفظت على صدور هذه الاتهامات، كما لم تعلق كوريا الشمالية أيضاً - رغم كونها معنية بهذا الاتهام - ، ورغم شيوع مقتل عاملين كوريين هناك خلال الهجوم. حقيقة، ما تزال هذه الحكاية مريبة ومقلقة في الوقت ذاته، فنحن لا ندري لماذا سكتت سوريا على هجوم إسرائيلي على منشآتها، ثم ذهبت تبحث عن وساطة تركية مع حكومة إيهود أولمرت لتنشيط ملف السلام؟ ولا كيف نفسر الصور التي تجمع بين المسؤولين (النوويين) السوريين مع نظرائهم الكوريين الشماليين؟ أو لماذا سارعت سوريا لتنظيف حطام المنشآت بدل انتظار تحقيق دولي يدين الاعتداء الإسرائيلي؟ أو يثبت براءة سوريا من تهمة التسلح النووي؟ ثم لماذا يسارع الإسرائيليون لضرب منشأة نووية قيد الإنشاء قبل أن ينتظروا تركيب المعدات التي يزعمون وجودها، أو يطالبوا بتحقيق دولي بدل أن يزيلوها تماماً عن الأرض؟ أما أهم سؤال يتبادر إلى الذهن فهو صمت الأمريكيين طوال الشهور السبعة الأخيرة الماضية، ثم لجوؤهم الآن - وفي هذا التوقيت - لفتح هذا الملف، رغم أن الدول المعنية (سوريا وإسرائيل وكوريا الشمالية) كلها ما تزال صامتة حيال القضية؟ جريدة النيويورك تايمز، وكذلك السيناتورة الديمقراطية دايان فينشتاين طرحتا هذا السؤال، الأولى في افتتاحيتها ( 25أبريل)، والأخرى خلال مجريات المناقشة في المجلس، وكلاهما ربطا الخطوة من قبل الإدارة الأمريكية الحالية - والمعروفة بتحفظاتها السرية الكثيرة - بتصفية حسابات ما بين معسكر المؤيدين لإتمام صفقة جديدة مع كوريا الشمالية، وما بين المعارضين لإنهاء النزاع الطويل مع حكم كيم يونغ - إيل. إذ كان من المفترض أن تنهي الإدارة قريباً مشروع اتفاق حوافز جديد يمنح كوريا الشمالية مزيدا من الحوافز على غرار اتفاق (فبراير 2007)، ويقضي أيضاً بتسليم الكوريين لمخزوناتهم الكبيرة من البلوتونيوم. ولكن، ماذا عن موقف سوريا من هذه الأزمة؟ برأيي، أن من المثير للجدل أن تلجأ سوريا في الوقت الراهن إلى مشروعات التسلح النووي، ويعود الأمر لثلاثة أسباب رئيسية: فأولاً، تاريخ العلاقة ما بين سوريا والوكالة الدولية للطاقة تعتبر جيدة منذ أن وقعت سوريا على معاهدة حظر انتشار الأسلحة أواخر الستينات، ثم ظلت العلاقة ثابتة طوال العقود الثلاثة الماضية، دون أن تظهر اتهامات جدية بسعي سوري للتسلح النووي. ثانياً، سوريا لا تملك لا المقومات المادية، ولا الكوادر المهنية والعلمية التي تمكنها من إنشاء مشروع علني - فضلاً عن سري - للاستخدامات النووية المتقدمة، وكل من يتذكر المحاولات غير الناجحة خلال الثمانينات والتسعينات لشراء مفاعلات نووية من روسيا والصين يدرك كم هو صعب أن تلجأ سوريا في هذا الوقت الاقتصادي العصيب لتمويل مشروعات باهظة الثمن كتلك. وأخيراً، فإن الضغوط السياسية الكبيرة التي تتعرض لها سوريا - من المحكمة الدولية وحتى لبنان - يجعل من المتعذر على السوريين التحرك في هذا المسار دون أن يلفتوا إليهم أنظار المخابرات المركزية في عدد من العواصمالغربية، هذا بالإضافة إلى أن السوق السوداء لمثل هذه المشروعات غير متوفرة كما كانت الحال عليه قبل عام 2000- حسبما تشير إليه التقارير الأمنية - حين كانت حلقة خان والكوريين الشماليين لا تزال نشطة، وبحسب ما لدينا من معلومات فإن سوريا لم تتورط في شراء أية مواد، أو الاستحواذ على أية معلومات قد تفيدها في بناء مشروع نووي تسلحي. رغم هذه الأسباب التي ذكرت، والتي تجعل سوريا غير قادرة على امتلاك مشروع نووي تسلحي كما تزعم إسرائيل، إلا أن هنالك مجالاً في أن تكون سوريا قد ورطت نفسها في هذا المسار. وحين أقول ورطت، فأنا لست ضد أن تحقق سوريا توازناً عسكرياً واستراتيجياً مع إسرائيل، ولكن ضد أن تخل سوريا بتعهداتها والتزاماتها الدولية، ثم إن مشروعاً كهذا من الصعب أن يتحقق لسوريا، ليس في ظل الوقت المتأخر جدا إذ إن مشروعا كهذا يتطلب عقوداً. ولعل الخطورة هنا، أن تكون سوريا قد ورطت نفسها في "أوهام القوة النووية"، وهو أمر جربته أنظمة قبلها في المنطقة كالعراق وليبيا وإيران، والنتيجة كما يعرف الجميع، أن تلك الأنظمة استهوت اللعبة "النووية"، وأوهمت العالم - وشعوبها كذلك - بقرب امتلاك السلاح النووي، ثم كانت النتيجة أنهم عرضوا بلدانهم للعقوبات الدولية والضغوط دون أن تكون لديهم أسلحة، أو حتى مشروعات حقيقية. هناك دلائل عديدة تشير إلى أن سوريا ربما تسير (للأسف) في اتجاه هذه السياسات السلبية، فهي تخلت نهاية 2003عن محادثاتها مع الروس بشأن بناء محطة سلمية، ثم امتنعت بشكل مفاجئ منتصف عام 2004عن استقبال لجنة من وكالة الطاقة الدولية،وبعد ذلك بأشهر رفضت عرض الاتحاد الأوروبي لسلة مساعدات ربطت بالتوقيع على البروتوكول الإضافي، ومن ذلك الحين رصدت بعض التقارير الدولية لقاءات بين السوريين ومسئولين من كوريا الشمالية في أكثر من مناسبة. نحن لا نعرف حتى الآن فيما إذا كانت الاتهامات التي توجه لسوريا حقيقة أم لا، والوكالة الدولية وعدت بالتحقق منها، ولكن إذا ما كانت تلك المعلومات صحيحة، فإن على سوريا أن تفكر جدياً بموقفها الراهن، فالكوريون الشماليون يفاوضون الولاياتالمتحدة من أجل عرض أفضل، وإذا ما وقعوا على الاتفاق قريباً فلربما قدموا أدلة تورط سوريا تماماً كما فعل الباكستانيون والليبيون في (2003) و(2005) مع كوريا الشمالية والعراق وإيران. أما إذا كانت سوريا غير متورطة في ذلك، فإن من مصلحتها أن تدعو الوكالة الدولية لزيارتها والتحقق من الأمر، لأن من شأن ذلك أن يوقف كل التكهنات ويعزز من موقف سوريا حيال هذه الأزمة. هناك رابحان وخاسرانن من شيوع هذه الحكاية، فالإيرانيون سعيدون بظهور دولة أخرى تشتت الانتباه الدولي عنهم، وتعزز من موقفهم التفاوضي - على أساس أنهم سيتفاوضون بالنيابة عن حليفهم - ، ثم هناك الأمريكيون والإسرائيليون الذين تمكنوا من تدمير منشآت في دولة أخرى دون حتى أن توجه إليهم الانتقادات، وهاهم يعدون العدة لاستخدام أداة ضغط جديدة ومؤثرة على النظام السوري. أما الخاسر الكبير فهي سوريا، والتي قد تؤدي هذه الأزمة بما تبقى من استقرارها السياسي والاقتصادي خلال الأعوام القليلة المقبلة.