تلقّى «يحيى شهاب الدين السهروردي»، شافعي المذهب، الحكمة والفقه في المراغة، ولكنه تطلع إلى الفلسفة والمنطق، فارتحل إلى أصبهان ومنها إلى حلب تسبقه شهرته ومؤلفاته، فالتقى أحد علمائها الذي عرّفه بالملك الظاهر، فتصيّد المغرضون من آرائه ما يشهد له بالعقوق، وتطايرت الأنباء إلى صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة، ورغبة من السلطان في إطفاء اللهب المشتعل، أمر ولده الملك الظاهر بمحاكمة الفيلسوف وإبعاده، ولأن الظاهر كان مطمئناً إلى علم صاحبه ومنطقه أمر بتشكيل المحكمة، وفيها حصلت المناظرة وصدر الحكم بإعدام الفيلسوف، ما اضطر الملك إلى تنفيذه طاعة لأوامر والده، ولكنه ترك للرجل اختيار الوسيلة، فطلب (اختلف المؤرخون في ميتته) أن تقفل عليه حجرة سجنه في قلعة حلب، بلا طعام أو شراب حتى الموت، فمن هو السهروردي؟ مؤسس الفكر الفلسفي الإشراقي الذي يعتقد بالكشف الروحاني طريقاً للمعرفة، ولا عجب فهو، كما وصلنا، أكبر من دعا إلى التأمل الروحاني من الفلاسفة المسلمين. كلمة أخيرة: اختار الفيلسوف سقراط السم ليلفظ أنفاسه، وعلى رغم شجاعته في مواجهة الموت وكان بإمكانه الهرب بمعونة تلاميذه، إلا أنه كان شيخاً طاعناً متجاوزاً السبعين، بخلاف السهروردي الذي أقدم على الموت في عنفوان شبابه، ومن يقرأ ويدرس شخصية الرجل من خلال مؤلفاته يصل إلى علمه ما كان يزدحم في صدره من معان وكشوف لم يسطرها بعد وكانت موعودة بالنضج والنور يوماً، فأتى حكم البشر فضيّعها، يقول حاجي خليفة صاحب كشف الظنون: «للدين والفلسفة موضوع واحد وهو الخير الأسمى، الذي هو فضيلة وسعادة معاً، ومعرفة هذا الخير تتضمن معرفة الله وصفاته وتنزيهه، وتحصل من طريقتين: إحداهما طريق النظر، وثانيتهما طريق الزهد والذوق الصوفي، والذين يسلكون الطريق الثاني إذا كانوا يعتقدون الإسلام وتعاليمه فهم الصوفية، أما إذا لم يكونوا كذلك، وكانوا يصطنعون الذوق، ويأتون في مذاهبهم بما يتنافى وأحكام الشرع فهم الإشراقيون»، وعلى العموم، ستجد دائماً من يسيء إلى الإسلام من حيث أراد الإحسان، وآفة ذلك في المغالاة أحياناً، والجهل بأسرار المحيط أحياناً أخرى، هذا على اعتبار أن المسيء كان حسن النية ولكن خانه الطريق والتعبير، أما المسيء عن قصد، فهو ضمن قطيع يساق من دون تمييز صائب منه أو فقه بصير، فإن كان بعض التراث الفلسفي باطلاً يظهر تهافته، فهو نتيجة طبيعية في التطور العقلي، وله ثقله المهم في ميزان التطور المذهبي، فلابد لبعض الآراء أن تأخذ مكانها الزمني في البحث والاستنتاج، حتى يأتي غيرها ويعقّب عليها بالنقض والتجريح والتعديل، أما قتلها في مهدها وتكفير صاحبها والحكم عليه بالرجم والموت، فلا أدري لمصلحة من يتكرر هذا المشهد! فإن كان لوحي الله المنزل، فهو أقوى من رأي بشر مهما علا وتفتق، وإن كان لمصلحة بشر، فالدين أولى بالفضل والاستشفاف، فنحن إنما نستعين بعلوم ومعارف عصرنا ما يعيننا على تفسير الدين ومعرفة «خباياه»، وكلما اختلف العصر احتجنا إلى مزيد من الشرح على ضوء فهمنا الجديد، فالوحي ثابت ومقدس، ولكن فهمه لا ثابت ولا مقدس لأنه ببساطة... بشري ومتطور. وقالوا: «الفلسفة للخاصة، والشريعة للعامة» الكندي [email protected]