كنت أعرف أن الأخ ابراهيم الأشيقر الجعفري طبيب ومن أركان حزب الدعوة وانه نائب رئيس جمهورية ورئيس وزراء عراقي سابق وأنه يرأس الآن تيار الإصلاح الوطني الذي سيخوض الانتخابات النيابية المقبلة. وكنت تابعت عمله معارضاً وفي الحكم، ثم جمعتني به رحلة الطائرة من لندن الى بيروت واكتشفت انه قبل هذا وذاك وبعده «منظّر» سياسي بامتياز. في الطائرة أهداني كتاباً جديداً عن حياته وعمله من تأليف الأستاذ علي السعدي، عنوانه «حزام النار: الجعفري والعراق الجديد، مفردات المواجهة وملامح السلام» ويمثل 28 ساعة ونصف ساعة من التسجيل الصوتي بين الرجلين. وقرأت مقدمة المؤلف ووجدت أنه منظّر سياسي بدوره، ومن الدرجة الأولى، فيتحدث عن كاريزما القيادة وافتقار العراق الى قادة من هذا النوع عبر تاريخ «امتلأ برجال سلطةٍ الحكم لديهم هدف لذاته يسلكون في سبيله كل شأن ويحافظون عليه بشتى الوسائل، بما فيها تدمير الهيكل على رؤوس الجميع...». وانتقلت الى تمهيد للسيد الجعفري، ووجدته يقول انه انطلق اسلامياً بالفكر قبل انتمائه الى حزب الدعوة، وإن النظرة الى الحزب كانتماء فكري سابقة على الانتماء التنظيمي، فهو انتمى الى النظرية قبل الانتماء الى التنظيم، وربما أثَّر هذان العاملان في تأصيل النظرة الفكرية والتنظيرية قبل الانغماس في تفاصيل العلاقة التنظيمية. المنظّر يغلب السياسي في الإهداء الذي خطه السيد الجعفري وهو يقدم الكتاب لي، فقد قال: «هذا هو حوار تجربة، وليس تجربة حوار، عَبَر من التاريخ واخْتَمر بعوامله ليتمخض عن حاضر، على أمل أن يصعد الى المستقبل. القادم من المستقبل هو العابر للتاريخ، يتحول عنده فعل الماضي الى علم حاضر، ومنهج مستقبل. انه هدية حب، وجرس ذكرى، وعروض كلمة. انتهيت لتوي من قراءة عمودك «عيون وآذان»، كشف عن وعي وجرأة. أكبرت ذلك فيك، وأملي بأن تواصل رحلة الصعود، من مثقف الى مفكر، الى «منظر» خدمة للحقيقة وسعادة الإنسان في عالم يحاول فيه بعضٌ قلب الحقائق. كلنا طلاب وغيرنا المعلمون...». لم أقل لرئيس وزراء العراق السابق اننا في بيروت ننظر الى كلمة «منظّر» بسلبية مردها اننا ذقنا الأمرّين من «منظراتية» السياسة اللبنانية والفصائل الفلسطينية، حتى أصبح المنظّر عندنا رجل يجلس في قهوة النشاط ويطلب من الجرسون: واحد قهوة سادة، وواحد يناقشني. ابراهيم الجعفري مسلم مؤمن، وعندما كنا في الطائرة كان يسأل مع كل طعام يقدم لنا: هل هو حلال؟ وقلت له ان الطعام أُعدّ في لندن والله غفور رحيم، إلا أنه لم يأكل إلا القليل، ثم ذهب الى آخر الطائرة ليصلي العصر، ولعله الوحيد الذي صلّى في تلك الطائرة. وهو عندما يتحدث عن حزب الدعوة وجذوره يشير الى أن هدفه في العمل هو ايصال المجتمع الى حالة صالحة حسبما تقتضيه الشريعة الإسلامية، ويقول ان الدعوة مرت في أربع مراحل، التغييرية الثقافية ثم التغييرية السياسية، ثم التغيير بواسطة الحكم، ثم مراقبة الدولة ومحاسبتها برلمانياً. وعندما يُسأل عن الأمم والهوية والمواطنة وهل تعني ان يكون المسيحي العراقي أقرب اليه من المسلم الإيراني أو المصري مثلاً يقول: «يجب أن أتعامل مع المسيحي العراقي على أنه أمانة في عنقي... أنا مسؤول عن المسيحي العراقي إذا كنت في موقع المسؤولية، وإذا كان هو المسؤول فسأتعامل معه بصفته مسؤولاً. مثلاً إذا كان هناك وزير مسيحي في دولة اسلامية لا أرى غضاضة في ذلك». لا أستطيع أن أفي الكتاب «حزام النار» حقه في عجالة صحافية وهو في أكثر من 650 صفحة، ولكن القارئ المهتم سيجد مع التنظير معلومات كثيرة عن اطاحة صدام، والعراق قبله وبعده، وعن المسيحيين والصابئة في العراق واليهود وغيرهم، والانتخابات الأخيرة والمقبلة. والسيد الجعفري يقول ان تيار الإصلاح الوطني ليس حزباً وليس انشقاقاً عن حزب أو واجهة لحزب، بل هو مفهوم عام بمعنى تيار بحالة نخبوية مركزية وبحالة طيفيّة ممتدة لجميع الشرائح... والاختلافات بين الحزب والتيار كبيرة، كما يرى السيد الجعفري، ويشير الى هدف الإصلاح لا عن طريق اغتيال الفاسد بل انتشاله من حالته، وإحدى مرشحات التيار في البصرة سيدة صابئية، إلا أن التيار لا يريد الهروب الى المستقبل بل بناء هذا المستقبل في الوقت الذي تجرى فيه تهيئة مستلزماته. هو كتاب يستحق القراءة. [email protected]