لم تنته الأزمة التي أثارتها انتخابات الرئاسة الإيرانية الأخيرة، فهي ليست انتخابية إنما أزمة انقسام في بنية المجتمع الإيراني ونخبته السياسية والثقافية، يمكن إخماد الاحتجاجات المتعلقة بها لبعض الوقت، ولكن يصعب السيطرة عليها طوال الوقت. لذلك ما إن حلت ذكرى اقتحام السفارة الأميركية في طهران في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري حتى تجدد المشهد الذي تابعناه في الشارع الإيراني لأسابيع عدة بعد انتخابات حزيران (يونيو) الماضي، تحولت إيران في اليوم ذاته إلى ساحة مواجهة بين أنصار النظام ومعارضيه. وانقسمت التظاهرات يومها بين شعارين، كان «الموت لأميركا» شعار أنصار النظام، ورفع المعارضون في مقابله شعار «الموت للديكتاتور». فالانقسام عميق والصراع يتجاوز الخلافات التفصيلية التي ظهرت خلال 30 عاماً هي عمر إيران الثورية، ويمتد إلى صورة مستقبل هذا البلد. هذا هو موضوع كتاب «إيران: جمهورية إسلامية أم سلطنة خمينية؟» الصادر أخيراً عن «مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع» في القاهرة لخمسة مؤلفين، كتب كل منهم فصلاً، وهم: وحيد عبد المجيد ومصطفى اللباد ومحمد السعيد عبد المؤمن ومدحت حماد ومحمد عباس ناجي. ينطلق الكتاب من أزمة الانتخابات الرئاسية لمناقشة طبيعة النظام السياسي الذي أقامته الثورة الإسلامية، وهو نظام فريد أقيم على ولاية مطلقة عرف التاريخ أشكالاً منها وألواناً. وليست ولاية الفقيه إلا امتداداً لظاهرة الولاية المطلقة، ولكن بشكل مختلف وفي صورة حديثة تمتزج بشيء من الحداثة السياسية تمثل الانتخابات الدورية أحد أهم مظاهرها، وشغلت إيران العالم بممارسات هذا النظام لثلاثة عقود. وستشغل الدنيا أكثر في ظل الأزمة الراهنة التي أشعلتها انتخابات 2009 الرئاسية. ولعل أهم تداعيات تلك الأزمة، التي توفرت لها مقومات الأزمة الاجتماعية والسياسية الممتدة، هو طرح السؤال عن مستقبل إيران على نحو لا سابق له. فإذا استبعدنا أسئلة ساذجة أُثيرت في مناسبات مختلفة في شأن قدرة نظام الجمهورية الإسلامية على الاستمرار، حيث تأكدت قدرته على ذلك، فهذه هي المرة الأولى التي يثار فيها السؤال جدياً عن الطابع الذي سيغلب على هذا النظام في المستقبل. لم تكن الجمهورية الإسلامية جمهورية كاملة بالمعنى المعروف في عصرنا هذا. فالجمهورية هي أحدث أشكال النظم السياسية. كانت الجمهورية مستحيلة قبل العصر الحديث، وقد أُقيم النظام السياسي الإيراني على مزيج من القيم السياسية الحديثة وما قبلها. لذلك ربما يمكن اعتباره نصف جمهورية لأن قسماً فيه يأخذ شكلاً حديثاً، وهو الذي يشمل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لكن هذا القسم يخضع لسطوة آخر يعلوه سلطة ويتركز في مؤسسة القائد أو الولي الفقيه، ومجلس الخبراء. نظام خماسي الأضلاع أنجز مدحت أحمد حماد صياغة جديدة بديعة للنظام السياسي الإيراني في دراسته ضمن الكتاب، تفيد بأنه نظام سياسي خماسي الأضلاع. ومن بين هذه الأضلاع ثلاثة تنتمي إلى العصر الحديث وتمثل قوام جمهوريات هذا العصر سواء الصالحة أو الفاسدة، والديموقراطية منها والتسلطية والشمولية على حد سواء. أما الضلعان الآخران الأكثر أهمية فهما مقطوعا الصلة بالنظام الجمهوري، خصوصاً مؤسسة الولي الفقيه أو القائد أو المرشد الأعلى. لذلك ربما يمكن القول، وفق ما ذهب إليه وحيد عبد المجيد في الكتاب، إنه نظام شبه جمهوري أو نصف جمهوري إذا جاز التعبير. وهذا النظام هو موضع الصراع الرئيسي الذي سيحدد مستقبل إيران، وعلى رغم أن هذا الصراع سبق الانتخابات الرئاسية العاشرة، إلا أنه كان كامناً في الأغلب الأعم. وقد أطلقته هذه الانتخابات عبر الأزمة التي ترتبت عليها وتوفرت لها مقومات التواصل والاستمرار. إنه الصراع بين اتجاهين عريضين يضم أولهما من يتطلعون إلى نظام جمهوري كامل يظل إسلامياً ذا صبغة أصولية شيعية، ولكن مع تحريره من الولاية المطلقة وسياسة التمدد في الخارج، وذلك عبر تقييد ولاية الفقيه وليس عبر إلغائها والاتجاه إلى الداخل لتكون إيران أولاً. أما الاتجاه الثاني فيشمل من يرغبون في تكريس النظام شبه أو نصف الجمهوري، ومن يذهبون إلى مدى أبعد في التزامهم الولاية المطلقة في الداخل والتمدد في الخارج على نحو قد يجعله أقرب إلى نظام سلطاني تستند فيه هذه الولاية على أجهزة أمنية وعسكرية يتصدرها «الحرس الثوري»، وتزداد فيه نزعة التمدد في الخارج عبر خلق مزيد من الأذرع تحمل النفوذ الإيراني إلى أي مكان يمكن الوصول إليه في منطقة الشرق الأوسط وربما في مناطق أخرى. وهكذا يبدو الإسهام الرئيسي لهذا الكتاب، والذي بلوره وحيد عبد المجيد، في قراءته لمستقبل إيران، في أن الصراع سيتصاعد بهدف تحديد اتجاه هذا المستقبل، وهل تتجه إيران نحو جمهورية إسلامية أم سلطنة خمينية؟ وليس سهلاً حسم هذا الصراع في وقت قصير، على رغم أن ميزان القوى مختل لمصلحة الاتجاه الثاني الذي يأخذ إيران صوب نظام سلطاني أكثر منه جمهورياً إلى الحد الذي دفع مصطفى اللباد إلى طرح فكرة بالغة الأهمية في الكتاب عن طابع النظام السياسي الإيراني الذي يرى أنه يحلق بثلاثة أجنحة. ومؤدّى الفكرة التي يقدمها اللباد أن النظام السياسي الإيراني لم يعد طائراً عادياً بجناحين (إصلاحي ومحافظ)، وإنما يتحول إلى طائر ثلاثي الأجنحة، أي خرافي، لأن أي طائر طبيعي يحلق بجناحين لا أكثر. وهذه الأجنحة كلها، عنده، تقع في اليمين، وتمثل التيارات الثلاثة داخل المعسكر المحافظ، في حين يضمر الجناح الواقع إلى اليسار. وربما يظن بعض القراء تناقضاً بين هذا التحليل العميق وتحليل آخر لا يقل أهمية في دراسة محمد عباس ناجي في الكتاب أيضاً. فوفقاً له، تشهد إيران صراع اتجاهات يبرز منها اثنان رئيسيان: أولهما اتجاه التغيير الذي يقوده المعتدلون المنتمون إلى التيار الإصلاحي والجناح التقليدي في التيار المحافظ. أما الاتجاه الثاني فيقوده الجناح الأصولي المتشدد في التيار المحافظ. ومؤدّى ذلك أن الصراع في إيران إنما هو بين الاتجاهين المحافظ والإصلاحي على نحو يعطي انطباعاً أولياً بالتعارض مع ما ذهب إليه مصطفى اللباد. محافظون وإصلاحيون لكن الحقيقة تتمثل في أن ليس هناك تناقض بين التحليلين لأن أحدهما يركز على النظام السياسي الذي تراجع وزن الاتجاه الإصلاحي فيه على النحو الذي أوضحه اللباد، بينما يركز الثاني على الخريطة السياسية الإيرانية التي يظل لهذا الاتجاه موقعه فيها على أساس أنها تغطي مساحة أوسع نطاقاً من النظام السياسي. ففي إمكان المحافظين إقصاء التيار الإصلاحي والسيطرة على النظام السياسي، ولكن ليس في استطاعتهم القضاء على هذا التيار أو شطبه من الخريطة السياسية. وفى خضم الصراع الذي سيحدد مستقبل إيران ووجهتها في مقبل الأيام، تبرز قضية الشرعية وإشكالياتها التي شرحها محمد السعيد عبد المؤمن في معالجته قضايا مثل موقع الحكومة الإسلامية من الأحكام الشرعية والعلاقة بين الثوابت والمتغيرات ودور قوات الحرس الثوري وإشكالية مواجهة النظام العالمي والعلاقة بين العُرف والشرع (هل يشرّع العرف أم يُعرّف الشرع). أما قضية ولاية الفقيه بين الإطلاق والتعقيد، والتي تعتبر بدورها إحدى إشكاليات الشرعية في إيران، فهي في قلب الصراع على مستقبل هذا البلد وهل يصبح نظامه السياسي جمهورية كاملة عبر تقييد هذه الولاية أم يبقى نصف أو شبه جمهوري أو يتحول إلى نظام سلطاني من خلال إطلاق ولاية الفقيه وإسنادها بالقوة الأمنية – العسكرية ورفدها بميل أوسع إلى التمدد وبسط النفوذ في الخارج. وإذا كان كل من طرفي الصراع على مستقبل إيران يرفع الخمينية شعاراً ويتدثر بها ويشهرها سلاحاً في وجه الآخر، فالاتجاه الطامح إلى جمهورية كاملة هو الأبعد عنها من دون أن يخرج من إطارها. فالجمهورية التي يريدها هذا الاتجاه إسلامية على مبادئ الخميني، ولكن مع تفسير أكثر اعتدالاً وانفتاحاً على نحو لا يخلو من تأويلات تحملّها أكثر مما يمكن أن تتحمل أو تضفي عليها أبعاداً قد لا تتسع لها. أما الاتجاه الآخر، والأقوى في إيران وفق ما تدل التفاعلات التي اقترنت بأزمة انتخابات 2009 الرئاسية، فهو الأقرب إلى الخمينية وأسسها الأيديولوجية التي تقوم على تقديس الدولة القوية المهيمنة على مجتمع محصور دوره في تجديد العهد مع «إمام الزمان» الغائب والولي الفقيه الذي ينوب عنه في غيبته، وتمجيد الدولة المتمددة خارج حدودها اعتماداً على أذرع تبسط لها نفوذها بالوكالة السياسية ما دام التوسع الجغرافي صار تاريخاً مضى وانقضى. إيران المستقبل وتبدو العلاقة بين الدولة والمجتمع عنصراً رئيسياً في تحديد صورة إيران المستقبل. يريد أنصار الجمهورية الكاملة غير المنقوصة فتح الباب أمام المجتمع الذي حافظ على حيويته على رغم تهميشه في دولة لا يرى المهيمنون عليها مكاناً له. فالمجتمع عندهم ليس إلا تابعاً للدولة تشكّله على شاكلتها. وهو، في إيران، مجتمع مؤمن وليس مدنياً. ومجتمع هذا طابعه تتركز وظيفته في العمل، مع الدولة وتحت قيادة الولي المطلقة ولايته، من أجل تهيئة الظروف اللازمة لحضور الإمام الغائب وظهور المهدي. فالمجتمع في «شبه الجمهورية» الإسلامية التي قد تصبح أقرب إلى سلطنة، محكوم بمبدأ الخلاص المهدوي وليس بمبدأ المشاركة في إدارة الشأن العام على النحو الذي يتبناه أنصار الجمهورية الكاملة. ومن الطبيعي أن تكون حدود ولاية الفقيه حاسمة في الصراع على مستقبل إيران وهل تكون جمهورية إسلامية أم سلطنة خمينية؟ ففي الجمهورية الكاملة، لابد من وضع حدود لسلطة الولي أو المرشد الأعلى في إطار ضمان الالتزام بالقواعد الشرعية ولكن من دون أن ينفرد وحده بذلك. فانفراده بالقرارات العليا، وأحياناً الدنيا، على نحو يلغي فعلياً كل من هم دونه ويجعل مؤسسات الدولة شكلاً فارغاً من المحتوى لا يستقيم مع فكرة الجمهورية. ومن العوامل الفارقة أيضاً في الصراع على مستقبل إيران، في هذا الإطار، مسألة ترتيب الأولويات بين الداخل والخارج. فالميل المتزايد إلى التمدد في الخارج، والذي يكتسب أولوية على ما عداه في بعض الأحيان، هو ركن من أركان النزعة السلطانية الغالبة لدى التيار الأقوى في إيران اليوم. وإذا كان شعار «إيران أولاً» الذي يتبناه التيار الأخير يبدو متعارضاً مع نصوص واضحة في الدستور الإيراني، فهذا يعني أن مهمة هذا التيار الذي يتطلع إلى جمهورية بالمعنى الدقيق بالغة الصعوبة. لذلك فليس غريباً أن يتحدث بعض أنصار النظام السلطاني عن السيد على خامنئي أحياناً باعتباره «السلطان الحازم». وهكذا تدخل إيران الإسلامية عقدها الرابع وقد تنامى الصراع على مستقبلها بين اتجاهين عريضين يفوق أحدهما الآخر لكنه لا يقدر على إلغائه. وبغض النظر عن الخلاف المشروع على تحديد طابع هذين الاتجاهين، وما إذا كانت ثنائية إصلاحي – محافظ تكفي لفهم أبعادها، فهناك من المعطيات ما يكفي لفهم الخلاف في إطار الصراع على مستقبل إيران وهل تكون جمهورية إسلامية أم تصبح سلطنة خمينية؟