الأرجح أن فيلم «محاكاة» Imitation (إخراج: مورتون تيلديم، بطولة بنديكت كامبرباتش وكيرا نايتلي) نجح كثيراً في استحضار المأساة المريرة التي عاشها عالِم الرياضيات الراحل آلن تورينغ، وهو مؤسّس علم الذكاء الاصطناعيArtificial Intelligence (أنظر «الحياة» في 23 أيلول/سبتمبر 2012). واقتبِس إسم الفيلم من سعي تورينغ لإعطاء الآلات الجامدة ذكاءً «يحاكي» ذكاء البشر، حتى لو لم يتطابق معه كليّاً، وهو مسعى تحوّل إلى عصب أساسي في علوم المعلوماتية والكومبيوتر والروبوت وكل ما يتّصل بذكاء الآلات. لم يفز شريط «محاكاة» بجائزة أوسكار أفضل فيلم، لكّنه نافس عليها بقوّة أقل كثيراً مما فعله الممثل كامبرباتش الذي رشّح لأوسكار أفضل ممثل، بفضل أداء نفسي مركّب لشخصية تورينغ. ذهب ذلك الأوسكار إلى الممثل إيدي ريدماين الذي أدّى باحتراف هائل وجهد مضنٍ، شخصية عالِم فيزياء الفضاء المعاصر ستيفن هوكينغ في فيلم «نظرية لكل شيء» Theory of Everything (أنظر «الحياة» في 20 كانون ثاني/يناير 2014). الذكاء ومصائره المتفاوتة ثمة فارق كبير بين مصائر تورينغ وهوكينغ، إذ يعيش هوكينغ مكرّماً، بل ينحني العالَم تقديراً لذكائه وصراعه الأسطوري مع نوع قاسٍ من شلل الجهاز العصبي، أدى إلى إقعاد جسده على كرسي مدولب، مع شاشة كومبيوتر هي صلته الوحيدة بالعالم، وهو يحرّكها عبر حركة عينيه، وهي إحدى الأشياء القليلة الباقية من قدرات جسده. وفي لقاء لمجلة «تايم» مع جاين وايد، وهي زوجة هوكينغ السابقة (جسّدت شخصيتها على الشاشة الممثلة فيليستي جونز، بأداء رقيق وجوّاني)، أوضحت أنها عاشت معه طويلاً، وهجرته قبل سنوات طويلة، لكنّها لم تشكّك أبداً بعبقريته وذكائه الوقّادين. وفي العام 2014 الذي صنع فيه فيلم «نظرية لكل شيء»، شهد العالم حملة فوّارة للتضامن مع هوكينغ ومرضه تمثّلت في «تحدي الدلو» The Bucket Challenge، وتطلب من المؤيّدين أن يصوروا أنفسهم أثناء تحملهم رمي دلو مملوء بالثلج على رؤوسهم. ونجحت الحملة في جمع ملايين الدولارات التي ستخصّص للبحوث عن المرض العصبي العضال الذي يعانيه هوكينغ. في المقابل، لم يعان تورينغ من مرض عُضال، على الأقل بالطريقة التي ينظر فيها الطب النفسي المعاصر إلى المثليّة الجنسيّة Homosexuality. لكن بريطانيا في خمسينات القرن العشرين، لم تكن متسامحة حيال ميول مثليّي الجنس، بل اعتبرتهم مرضى يتوجّب «تخليصهم» من ذلك الميل الذي كان مُداناً قانونيّاً، إضافة إلى منعهم من التكاثر. ولم تتردّد بريطانيا الخارجة من الحرب العالميّة الثانية في تطبيق تلك الرؤية التي تذكّر بنظرة النازية إلى اليهود والسود والعرب والغجر، على تورينغ، على رغم كونه من أبطال تلك الحرب، بل أنه ساهم بقسط كبير في الانتصار على النازية عبر تمكّنه من تفكيك شيفرة الاتصالات العسكرية للرايخ الثالث التي حملت إسم «إنيغما». بمعانٍ كثيرة، حمل الفيلم اعتذاراً بلغة الفن المرئي- المسموع، عن النهاية المأسوية لأحد ألمع العقول التي ظهرت في القرن العشرين. عن شيفرة مهّدت للروبوت الأرجح أن النقاش حول تورينغ والمثلية الجنسيّة والانتحار (بما في ذلك الحق فيه)، هي أمور يطول النقاش فيها. واختار الفيلم أن يركز على جوانب كثيرة في مأساة تورينغ، لكنه لم يركز كثيراً على العلاقة بين شغف تورينغ بالكلمات المتقاطعة من جهة، وولعه بالرياضيات وبذكاء الآلات من الجهة الثانية. وتمثّل العلاقة أحد الخيوط الأساسيّة بين الرياضيّات واللغة، وهو أمر أساسي في تطوّر ذكاء الآلات، الذي صار شائعاً الإشارة إليه بمصطلح «الذكاء الاصطناعي». وفي المجتمعات المعاصرة، صار الذكاء الاصطناعي شديد الاختلاط بتفاصيل الحياة اليوميّة للناس، إلى حد أن وجوده صار شيئاً عادياً تماماً، اذ يمثّل الكومبيوتر المساحة الأوسع لحضور الذكاء الاصطناعي حاضراً، واستطراداً يحضر ذلك الذكاء في الانترنت والخليوي وال«تابلت» وال»لاب توب» وكومبيوتر المكتب وغيرها من الآلات التي لا تتصور الحياة من دونها. ومع تذكّر أن القفزة الأبرز في الآلات الذكيّة حصلت عندما صارت تلك الآلات قادرة على التعامل مع اللغة، تتضح العلاقة بين الشغف باللغة لدى، الذي أظهره الفيلم في التركيز على الكلمات المتقاطعة، والدور لعبة ذلك العالِم في تطوّر الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي. وكذلك يفسر الأمر نفسه تمكّن تورينغ من كسر شيفرة ال»إنيغما» Enigma، معناها «اللغز»، التي كانت تستخدمها الجيوش الألمانيّة، ما ساهم في الانتصار التاريخي على النازية. (نفتح قوساً للإشارة إلى أن الفيلم لم يكن دقيقاً في نسبة الأمر كليّاً إلى فريق تورينغ، لأن أول من لاحظ الطريقة التي تستعمل فيها «إنيغما» عبارات شائعة ك»هايل هتلر»، هو فريق بولندي كان يعمل بالتنسيق مع فريق تورينغ). كذلك ركّز الفيلم كثيراً على فكرة أن تورينغ تصوّر أن يكون ذكاء الآلات مختلفاً عما لدى البشر، بالأحرى خياراً مختلفاً في الذكاء. وفي حياة تورينغ أنه كان مؤمناً بإمكان أن يقلّد ويحاكي ذكاء الإنسان. وضمن أعمال كثيرة، صنع تورينغ تصميماً لآلة يفترض أنها تبرهن على إمكان أن تقلّد الآلات ذكاء البشر تماماً. وتتمثّل الفكرة الرئيسيّة لعمل تلك الآلة، في ما يعرف بإسم «اختبار تورينغ» Turing Test. وفي وصف مبسّط، يتضمّن الاختبار أن يلقي كائن بشري بأسئلة متنوّعة إلى طرفين لا يعرفهما ولا يراهما، يكون أحدهما شخصاً والآخر آلة ذكيّة. ويطلب من الشخص أن يعرف الإجابة الآتية من الآلة وتلك التي تصدر عن كائن بشري. وعندما لا يعود هناك فارق بين الإجابتين، توصف الآلة الذكيّة التي أعطت إجابات تحاكي إجابات البشر، بأنها اجتازت «اختبار تورينغ». ليس اجتياز ذلك الاختبار بالأمر السهل، بل أن خلافاً ما زال مستمراً في ما إذا كان الذكاء الاصطناعي تخطى الاختبار أو لا، إلى جانب النقاش في ضرورة ذلك أصلاً. هناك من يعتقد أن من الخطأ النظر إلى ذكاء البشر بوصفه النموذج الوحيد للذكاء، ما يبرر القول بذكاء «مختلف» للآلات، وهي الوجهة التي ظهرت في الفيلم.