ثمة من يذهب إلى اتّجاه متطرّف في معالجة مسألة إمكان أن يصنع البشر آلات تقلّد ذكاءهم. «يشبه الطلب من البشر أن يفهموا ظاهرة الذكاء، أن يُطلب من بزّاقة أن تجري تحليلاً نفسيّاً». ظهرت هذه العبارة في تسعينات القرن الماضي ضمن تعليقات إعلامية عن هزيمة بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف أمام الكومبيوتر «ديب بلو» Deep Blue. وتفيض كلماتها بالقسوة على قصور الإنسان عن فهم القدرة على التفكير التي يتمتع بها، بل يعتبرها أساساً في التعريف به. ثمة نقاش مديد تماماً عن كون الإنسان كائناً مفكّراً، إذ اعتبر الذكاء والتفكير من الصفات التي يحتكرها البشر. ووصِف الفكر، على لسان الفيلسوف رينيه ديكارت، بأنه يشبه «الروح في الآلة»، بمعنى أنه شيء لا يتّصل بالدماغ، وهو العضو الأكثر التصاقاً بالفكر والذكاء. هناك مدارس فلسفية عدّة، رفضت أن يكون الذكاء هو محصلة عمل الدماغ، بل اعتبرت الأخير مجرد أداة تعبّر عنه. وفي المقابل، هناك من فكّر في الاتجاه المُغاير كلياً، بمعنى اعتبار الفكر نتاجاً مباشراً لدماغ البشر وتطوّره وأعصابه ومراكزه. سؤال مقلوب يُعتَبر تورينغ من أشد المؤيّدين للنظرة القائلة بأن الفكر هو نتاج مباشر لعمل الدماغ. «علينا أن نقلب سؤال «هل تفكّر الآلات؟» إلى سؤال أكثر قرباً إلى معطيات العلم، بمعنى أن نسأل «إلى أي مدى تستطيع الآلات تقليد البشر»؟ تعطي تلك الصيغة نموذجاً عن طريقة تناول تورينغ لمسألة الذكاء. وبقول آخر، تمثّل طموح تورينغ في تحويل العمليات الفكرية للعقل البشري إلى مجموعة من المعادلات الرياضيّة التي يمكن استعمالها في برمجة آلات ذكيّة، فتصبح قادرة على تقليد ذكاء الإنسان. وبذلك وضع تورينغ تحدّياً أمام الذكاء الاصطناعي، قوامه صنع آلات تستطيع أن تؤدي مهمات لغة البشر في التواصل والنقاش وتقديم براهين منطقية متكاملة وصوغ الحجج والمقولات والفرضيات وغيرها. وعلى رغم التقدّم الكبير في الذكاء الاصطناعي، لا يزال ذلك التحدي الذي رسمته أعمال تورينغ، أمراً غير محسوم، لكنه يشكّل حافزاً مستمراً لإحداث اختراق نوعي في الذكاء الاصطناعي، يصل به إلى محاكاة كاملة للعقل البشري.