-1- يتحدث اليوم كثيرون* عن موت الشعر، غير أن الموت حقاً هو في الاستجابة لمثل هذا الحديث أو في تصديقه. فالمسألة ليست موت الشعر، وإنّما هي كيف نكتب الشعر في مجتمعٍ تستهلكه ثقافة الموت، أو لا مكان فيه لحريّة الإبداع؟ -2- الشِعر في المجتمع مرتبط جوهرياً، مهما انفصل، شكلاً ومضموناً، بلغة هذا المجتمع، أَعني بتاريخه سياسياً ودينياً وثقافياً. وليست أمامه إلا طريقتان : إما أن ُيكتب استهلاكاً، consommation وإما أن يُكتب إنتهاكاًTransgression. بالطريقة الاولى، يولد الشعر ميتاً. بالطريقة الثانية يولد الشعر منبوذاً أو مُهَمَّشاً. لكن لا خيار للشاعر، إن كان شاعراً حقاً، إلا أن يسلكَ طريق الانتهاك: يزلزل على نحوٍ جذري وشامل، الأسس الثقافية اللاشعرية التي ينبني عليها نظام هذا المجتمع، وخصوصاً في كلّ ما يتعلق بالعائلة والمرأة والتراث والدّين والانغلاق القوميّ والنزاعات العرقية، والإنسان حقوقاً وحرِّيات، - لا زلزلة النظام وحده، بل أسس هذا النظام. ذلك أنّ تغيير الأنظمة وحدها، لا يغيّر أيَّ شيء جوهريّ. وهذا ما تؤكّده التجربة السياسية، وبخاصّة العربية في النصف الأخير من القرن العشرين. وعلى الشاعر إذاً أن يتخطى المساءلة السياسية إلى المساءلة الكيانية Ontologique. وهذا ما يجب أن تفعله كذلك ثقافة الانتهاك. هكذا لا بدَّ للشعر من أن يتجاوز مجرّد «تَشويش الحواسّ» Dérèglement des sens ، المقولة الرّامبويّة المشهورة، إلى تَشويش العقول والافكار والقيم. ومعنى ذلك أنّ وَعْيَ الذات لدى الشاعر مشروط بوعي واقعه، دينياً واجتماعياً وثقافياً، وبوعي تاريخه الحضاري، خصوصاً في كلّ ما يتّصل بالإبداع والاتّباع، بالذاتية والآخريّة. -3- الشرط الأول للقيام بهذا الانتهاك أو بهذه الزلزلة يَكمُن في الحرية: نقداً وكشفاً وتعبيراً. إنها حُريّة - حركة متواصلة لا تتخطّى حدودَ الخارج وحدها، وإنما تتخطّى كذلك نفسها باستمرار: تعيد النظر في ما فعلته وترى دائماً إلى أبعد في النظر والممارسة. هكذا لا يخاطب الشعر الجماعة أو الجمهور، وإنما يخلقُ داخل الآخر - القارئ شخصاً آخر خفيّاً يَتحاور معه. يبحث هذا الآخر، هو كذلك في كتابة الشاعر عن شخصٍ خفيٍّ يَِتحاورُ معه. يتشاركان في عذاب التجربة ويتبادلان طرق المعرفة للتغلب على هذا العذاب، والخلاص منه. الذاتية، إذاً، يجب أن تُفهَم هنا بوصفها الصيغة الوحيدة للخروج على ثقافة الاستهلاك، وهي لا تعني، في أية حال، خروجاً على الجماعة والجمع والأمة. إنها على العكس، تتضمن الحوار معها لِلّتوكيد لا على طاقة الاستهلاك فيها وإنما على طاقة الانتهاك، طاقة الحرية والتجدّد والتقدم. ومن هذه الزاوية يمكن القول إنّ وصف «الأنا» في الشّعر بعامّة، وفي الشعر العربي الحديث بخاصّة، بأنه فرديّةٌ وتَعَالٍ، ليس جهلاً وحسب وإنما هو كذلك تحريفٌ وتشويه. وإذا أدركنا أن الشاعر العربي، مثلاً، مقيّدٌ دينياً وسياسياً واجتماعياً، يتضح لنا أنّ تشديده على الذاتية ليس إلا تشديداً على الحريّة نفسها، وعلى التحرر من كل ما يقيده ويقيد المجتمع الذي ينتمي إليه. يتضح لنا أيضاً أن شعراً لا ينطلق من هذه الذاتية لن يكونَ إلا صوت الجماعة المستهلِكة التي لا تخنقه وحده، وإنما تخنق أيضاً كلّ ذاتية وبالتالي تخنق نفسها هي بنفسها. شخصياً، وجدت رفقاء لي في طريق هذه الذاتية الحرة: في مُتَصَوّفين، وفي شعراء، وفي مفكرين وفي مهمَّشين منبوذين وفي رافضين وثُوّار. وهذا هو سِرُّ اهتمامي بهم، وبرفقتهم وبنتاجِهِم. وقد تعلّمت منهم أنّ الذاتية خَرّقٌ مزدوج: للجدار الاجتماعي من جهة ولعزلة الذاتية من جهة ثانية، خصوصاً عندما تنقاد لسبب أو آخر، للّجوء إلى استيهاماتِها. هكذا تكون الذاتية نقضاً لمَحدوديّة الذات، ونقضاً للمُعَوِّقات الاجتماعية في آن. الذاتية تقول لك : لستَ للحظة معيّنة، اللحظات كلُّها لك. وذلك هو المعنى العميق للتحوُّل. والذّاتية التي تنهض على مبدأ التحوّل كيف تكون تمركزاً؟ أورفيوس، (المتصوف الذاتية) مقترناً بالثوري( التاريخ - المجتمع): هما معاً يُشكِلان هُويِِة الشاعر في رؤية شاملة للإنسان والحياة والكون. وبهذا المعنى يمكن القول: الشعر سياسة، ويمكن الكلام على سياسة الشعر، وعلى شعرية السيّاسة. إن كان لي مَدارٌ شعري، فمَداري ليس في الذاتية الفردية المنغلقة، بل في التاريخ العربي، في المشترك الثقافي العربي، من أجل إتقان فهمه، ومن أجل إتقان الخروج منه الى أفق ثقافي آخر، داخل التاريخ العربي من أجل تاريخ آخر انطلاقاً من مادّته ذاتها. لكنني أنظر اليه بعين مختلفة، لكي أعرف كيف أرى الواقع المحجوب تحت ستائره الكثيفة المتنوّعة. يمكن القارئ أن يتحققَ من ذلك في القصائد التي كتبتها منذ «أغاني مهيار الدمشقي» مروراً بقصيدة «إسماعيل» والقصائد التي كتبتها عن المدن العربية تمثيلاً لا حصراً وإنتهاءً بكتاب «الكتاب» أقول انتهاء، لانني أريد أن أقتصر على بعض الأمثلة. في «أغاني مهيار الدمشقي» ، مثلاً تمتزج «أنا» الشاعر بآخر ليس فرداً بل بآخر هو أنت، وهو، ونحن، آخر منفتحٌ على ممكنات آتية : آخر يتجدّد بإستمرار ويتحوّل باستمرار. ويتعقد هذا الامتزاج في «الكتاب»، إلى درجة لا نعود نميِّز على وجه الدقة، بين أنا الشاعر وأنا الاخر، أو بين أدونيس والمتنبي وآلاف المضطَهَدين - بطرق متنوعة عملياً ونظرياً. وهكذا تبدو الذات بؤرة جامعة للذوات كلّها، وليست بؤرة فردٍ واحد. الذات هي الطاقة الخلاّقة في المجتمع، والتي تفصح عن نفسها في اللغة الشعرية التي لا بدّ من أن تكون لغة شاعر مفرد، لكن بصيغة الجمع. في تجربة الحّب مثلاً يكون العاشق اثنين أو أكثر، وكذلك في تجربة الحزن، وفي مختلف التجارب. «أنا» الشاعر ذائبة قَبْلِياً في «نحن» المجتمع. لكن علينا نحن القراء أن نعرف كيف نمتزج وكيف نتفارق، كيف نَأتَِلف وكيف نَختَلِف. لا يكون الشعر مجّانياً إلا في الطبيعة. يضيف الشعر الى الطبيعة «صناعة» تتمازَجُ فيها عناصر الكون جمعاء، بَشَراً وأحداثاً وأشياء. إنه في آنٍ سياسة وفنّ، أخلاق واختراقات، هدم وبناء. -4- ما يجابهه الشاعر العربي اليوم، مثلاً، (وربما الشعراء في العالم كلّه، قليلاً أو كثيراً، بشكل أو بآخر) يتمثل في أمرين: الأول، هو كيف يتخلّص المجتمع العربي من النظرة الدينية الى الشعر والتي تراه غِواية وضَلالاً. والثاني، هو كيف يتخلّص من النظر الى الشعر بوصفه أغنية أو سلعة، أو بوصفه استهلاكاً. الغِواية، كما يقول أفلاطون في صدد كلامه على الشعر، تعلّم النظر الى الحق بوصفه باطلاً، وإلى الباطل بوصفه حقّاً. هذا قول لا يهدف الى وصف الشعر بقدر ما يهدف الى إلغائه من حقل ما يسمى «الحقيقة». فالشعر بوصفه غِوايةً يحسبُ الظلَّ أصلاً فيخطئ ويجعل قارئه يخطئ وفقاً لهذه النظرة. وبما أنَّ على الانسان أن يَتَجنّبَ الخطأ، فإن عليه أن يتجنبَ كل ما يسبّب الخطأ، وفي طليعته الشعر. وإذاً لا يجوز، تبعاً لهذه النظرة، أن يكونَ للشعرِ مكان في المدينة أو المجتمع. لا بد من «طَردِه» بعيداً عنهما. في الماضي استند أفلاطون إلى «سلطة» المثال لطرد الشعر. والذين جاؤوا بعده استندوا إلى سلطة الدّين. اليوم تُستخدم سُلطة أخرى هي سلطة الاستهلاك. وهي سلطة تدعو إلى أن يكون مبتذلاً في متناول الجميع لكي يقدر أن يتذوقه جمهور يفكر كأنه آلة سياسيّة أو آلة استهلاكية أو آلة دينية. والشاعر في هذه الحالة لا يعمّق تجربةً وإنما ينتج سلعة. لا يفتح أفقاً للفكر والتأمل إنسانياً وجمالياً وإنما يفتح كتابته لشهوات الجمهور، شهوات الاستهلاك والتسوُّق. ولا تعود الكتابة بالنسبة اليه، دعوة لتجديد الحياة والإنسان أو لِخَلق عالم أكثر جمالاً، وإنما تُصبحُ دعوة لجعل الحياةِ نفسِها سلعةً وميداناً لتبادل السلع. هذه الحالات الثلاث: طرد الشعر من المدينة باسم «الغِواية» (التي تبعد الإنسان عن المثال الأفلاطوني)، وطرده بإسم «الضلال» (الذي يبعد الإنسان عن الهداية الدينية)، وطرده باسم «الجمهور» (الذي يجسّد الثقافة التقليدية وثقافة النظام)، أقول إن هذه الحالات الثلاث هي بالضبط على المستوى الإبداعي، ما أسست وتؤسس، لفرادة الشعر بخاصّة والفنّ بعامة، في الكشف المعرفيّ، وفهم العالم والإنسان. وهي ما يرفع بيت الفنّ عالياً على هذه الارض. وهو في ذلك بَدْئياً نقيضٌ لكلّ «تسويق» أو «استهلاك» أو «تسييس» وهو ما يعمل النظام الثقافي السائد على إشاعته وترسيخه باسم «العقلانية» أو «هموم الناس» أو «المشترك العام» أو «الجمهور» أو «العولمة». إمتياز الفن، والشعر بخاصّة، هو في هذا «الطرد». وميزة المبدعين هي في أن يتمسّكوا بهذا «المنفى». ذلك أن المعرفة تنطلق من هذا «المنفى» وهي لا تكتمل ولا تأخذ بعدها الإنساني الكوني إلا بدءاً منه ومن الوعي به. خصوصاً أنّ الفنَّ جسدانيٌّ، إلى جانب كونه روحانياً: يعيش الجسد في طبائعه وأحواله وتقلبّاته: الفرح، الحزن، الألم، الشهوة، العنف، الصمت، الحنو، الحب، الكره، اليأس، الأمل.... وهذا ما يميّزه عن العالم الفلسفيّ (الأفلاطونيّ) وعن العالم الدينيّ (الشّرعيّ) وعن العالم الصناعي (الّتقنيّ). فعندما نقول فنّ: نقول أولاً طاقة الانتهاك بجميع أنواعه ومستوياته. إنه الانتهاك الذي يصدر عن الاندفاعات الأكثر عمقاً وكونيّة في الإنسان: إرادة الخلق والتحرر من كل قسرٍ وإكراه، والرغبة الأبدية في أن يبقى فتيّاً. -5- يتيح لنا نظامُ العَوْلَمة الاستهلاكي بأن نقول إن الإعلان هو «شاعرُ» الاستهلاك. ولعل المفكّرَ الفرنسيّ جان بودريّار خيرُ مَن يُعَرِّفُ الإعلانَ قائلاً إنه «بلا عمقٍ»: فوريٌّ، وسُرعانَ ما يتم نسيانُه. إنّه انتصار الشّكل السطحيّ. ودرجةُ المعنى فيه «صفر». ويضيف إيف ستوردزه، قائلاً عنه «إنه سديم لا قواعد فيه للكتابة» («المصطنع والاصطناع» جان بودريار، ترجمة جوزيف عبدالله، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، ص. 157- 159). يقول بودريار أيضاً واصفاً الإعلان بأنه: «لا ماضي له، ولا مستقبل» متابعاً: «جميعُ الأشكال الراهنة للنشاط تتّجِهُ نحو الإعلان» و «في الشكل الإعلاني تُلغى جميعُ المضمونات المتميّزة « (المصدر نفسه). -6- هكذا يبدو أنّ الإعلان « تسليعٌ» «وتَسْويقٌ» لا للأشياء وحدَها وإنّما كذلك للآداب والفنون. وهذا ما قامت به ثوراتُ القرن العشرين في مختلف أشكالها ومستوياتها، بدءاً من الثورة البلشفية 1917. إستطراداً، أليس التّوكيد على «فَرادة « قصيدة النثر مثلاً وعلى أنّها تخطّت أو ألْغَت « قصيدَةَ الوزن» وحَلّت محلَّها نوعاً من الإعلان؟ والعكسُ صحيح: الإصرار على رفضِ «قصيدةِ النثر» وعلى أنّ « قصيدةَ الوزن « هي وحدَها الشعر، ليس هو كذلك إلاّ نوعاً من الإعلان. -7- الإعلان طلبٌ للنّجاح، أي للانتشار. الإعلان جمهور. النجاح فنّياً وبالأخصّ شعرياً، تابعٌ لارتباطِ العملِ الفنيّ أو الشعريّ بالآراء والمشاعر السائدة بين الجمهور، ولقابلية انتشاره. الكتابة عن القضايا الوطنية مثلاً أو الدينية أو الجنسية، قابلةٌ للنّجاح، بفعل قابليّتها للانتشار أكثرَ من الكتابة النقدية التحليلية التساؤلية. لكنّ السؤالَ هنا: أين مكانُ الحقيقة، على افتراض أنّ الإبداع الكتابيَّ بَحثٌ عنها؟ أهو في «التلاؤم» مع الجمهور، والتّصالحِ معه، أو هو على العكس، في «الاختلاف» وفي «الانشقاق» عنه؟ في هذا السؤال نجد أيضاً ما يؤكّد أنّ معنى الشعر هو في كونه طاقة انتهاك. ربّما نجد في هذا أيضاً المعنى الأعمق لترجمة الشعر: العمل للخروج من عولمة الاستهلاك الى كَونيّة الانتهاك. ( * ) نصّ الكلمة التي ألقاها الشاعر أدونيس في حفل تسلّمه الجائزة الصينية «زونغ كون الدولية للشعر « في بيجينغ، 12. 11. 2009. وقد جاء في بيان إعلان الجائزة أنها «مُنحَت له تقديراً لإبداعه الشعريّ ومكانته في مضمار الشعر العالمي، وتأثيره في تطوّر الشعر الصينيّ المعاصر».