هل يعتبر صندوق الاقتراع كفن الثوريين الحقيقي؟ كما يصفه غودوين، وكيف سيكون مستقبل الثورات السياسية مثل تلك التي شهدها عالمنا العربي خلال القرن العشرين في ظل ثورة العولمة والتكنولوجيا، ومحاولات نشر مبادئ وقيم الديموقراطية على مستوى العالم العربي تحديداً، وأهمها «العدالة الاجتماعية»؟ فهل سيكون مستقبلها مثل واقع ومستقبل الاستعمار الجديد على العالم العربي، الذي بدأت خطوطه النهائية تتضح وترسم مستقبل تاريخه الذي لم يعد مقبولاً ولا يمكن تصديق شعاراته المزيفة بمعنى الديموقراطية والحرية والعدالة التي دائماً ما ينشدها المواطن العربي ويفضل أن تقدم له بصدق وعمل من أنظمته السياسية القائمة حالياً وعن اقتناع كامل بنتائجها ومعطياتها؟ ربما كانت الثورات السياسية في عالمنا العربي خلال القرن العشرين تنطلق أساساً وتعتمد على النقمة من أوضاع سياسية معينة كانت راهنة آنذاك، لذلك فإن الثورات ومن كانوا يقودونها كانوا يطمحون إلى الاستيلاء على السلطة السياسية من أجل تغيير وتجديد واقع مرفوض منهم وربما من غالبية شعوبهم، فيعتقدون أن الثورة على وضع سياسي لا يؤمنون به يمكنها أن تجدد كل شيء وتشكله من جديد عبر إيجاد أسلوب ولغة وأسباب حياة جديدة! إلا أن التاريخ يكشف عن نتائج معظم من خطط وقاد الثورات داخل عالمنا العربي خلال القرن الماضي، والذين كانت خططهم الثورية لا تضع في اعتبارها أي مستقبل واضح للثورة وكيفية المحافظة على مكتسباتها وإنجازاتها، إذ باءت بالفشل السريع، بدليل ما شهده القرن العشرون من اندلاع أكثر من ثورة واحدة وخلال فترات زمنية قصيرة وفي دولة واحدة. من جهة ثوار انشقوا ايديولوجياً وخرجوا على بعضهم البعض وقادوا مجتمعاتهم خلفهم عنوة وضحوا بها في سبيل تجديد وتجسيد طاقاتهم العسكرية، محاولين خلق جو من الرعب والفوضى والسيطرة العسكرية المتزايدة لديهم، ثم فرضها عنوة على مجتمعاتهم في محاولة لإثبات آرائهم الأيديولوجية والسياسية بقوة السلاح على معارضيهم والمجتمع الذي كان يمثل الضحية التي تشفي نزوات وغليل الفكر العسكري الثائر والنافد صبره بسرعة أمام كل مفاهيم وقيم الديموقراطية الوطنية، أو الحرية الفردية التي كانت هي الشعارات التي رفعها الثوريون لإقناع مجتمعاتهم بقبول الانضمام الى انقلاباتهم وثوراتهم العسكرية تحديداً ضد أنظمتهم السياسية التي كانت قائمة آنذاك. إن الثورات العسكرية التي قامت في دولنا العربية خلال القرن الماضي لم تتمكن من أن تثبت للتاريخ المعاصر أنها كانت حلاً أو جزءاً من الحل للقضاء على الاستبداد السياسي الذي كان قائماً في ذلك الوقت، وإنما أثبتت العكس، فهي لم تفعل أو تقدم شيئاً جديداً يمكن أن يحسب لها في التاريخ العربي المعاصر سوى تغييرها للحكومات السالفة عليها من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية فحسب، بدليل عدم قدرتها على تبديل النظرة العامة للإنسان العربي حين يتطلع إلى حكومته الثورية فيجدها تتعامل مع واقعها السياسي في الداخل والخارج وفقاً لما تمليه عليها الشروط والقيود الدولية، تماماً كما كانت الأنظمة التي أزالتها معترضة على سلوكها السياسي تتصرف بالطريقة نفسها! فلم تغير الحكومات الثورية في مقاييس الحياة في المجتمعات الكثير الذي يمكن للتاريخ أن يسطره لها على صفحاته البيضاء، وإنما أثبتت العكس عندما أصبحت مستبدة سياسياً وجزءاً متكرراً ودورياً من مشكلة التسلط والاستبداد السياسي. ولعل في هذا الاستبداد ما يدفع اليوم المتطرفين ايديولوجياً باسم الدين، أو «الثوار الجدد» إذا جاز لنا التعبير عنهم بهذا المسمى، إلى إعادة أخطاء أسلافهم الثوار العسكريين – تحديداً – والدخول في تنظيمات وأحزاب دينية نشطة تختلف عن الأحزاب العسكرية من ناحية التخصص وتعدد المواهب والتبحر في علوم الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس، والأهم من ذلك هو معرفتهم بفنون القتال وعلوم الهندسة التكنولوجية، ووعيهم الكامل بمختلف أنواع الأسلحة وكيفية صناعتها يدوياً، إضافة إلى معرفتهم بكيفية إدارة التفكير وعمل العقل البشري لخلق عالم غريب مليء بالأسرار والمتناقضات يحمل معنى الإرهاب ولكنه لا يعبر في واقعه إلا على أثر من آثاره وهو أن الإرهاب «شيء مخيف»، فاستطاع أن يتخطى حدوده كثيراً ليصل إلى أي شخص وفي أي مكان ويغير من طرق استخدامه لمواجهة حاجاته الجديدة طبقاً للحاجة وتحقيقاً للأهداف في سابقة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً حتى في زمن الشيوعية والنازية والفاشية. فهل أهداف هؤلاء الثوار المتطرفين دينياً ترمي بالفعل إلى إحقاق الحق والعدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر ومشكلات البيئة ومواجهة تحديات هذا العصر، إذا نجحت ثوراتهم العنيفة التي عادة ما تتخللها عمليات سفك دماء الأبرياء من أبناء مجتمعاتهم قبل الآخرين في القضاء أو الإطاحة بالأنظمة السياسية العربية وغيرها القائمة الآن، التي تمثل من وجهة نظرهم أنظمة متعاونة مع الغرب ضد قضايا الأمة؟ وماذا ستقدم هذه التنظيمات الثورية الإرهابية الجديدة للأمة إذا ما تمكنت من تحقيق أهدافها؟ وكيف ستتعامل مع مجتمعاتها والعالم والقوى الدولية من حولها؟ قديماً قيل لنا أن من الأسهل على الكاذب أن يخدع الناس بكذبة كبيرة، بسبب أن الكذبة الكبيرة تحتاج من صاحبها جرأة وإقداماً أكبر وخيالاً أوسع! فهل سيتجرأ المتطرفون دينياً على الاستمرار في اختراع أكاذيب ترمي الى إقناع البسطاء من الناس أن أهدافهم دينية إسلامية تقوم على محاربة العالم لإدخاله في الدين الإسلامي عنوة بقوة أسلحتهم البيضاء والقنابل اليدوية الصنع والرشاشات القديمة المسروقة أو المهربة؟ أو أنهم سيفتحون صفحة جديدة مع أعدائهم، كما فعل الثوار من أسلافهم؟ فينسون المبادئ والأسس التي بني عليها إرهابهم وانطلق منها وكأن شيئاً لم يكن ما دامت أهدافهم الحقيقية في الاستيلاء على السلطة السياسية قد تحققت وهذا هو المهم! إن تحقيق مبادئ الديموقراطية كافة في عالمنا العربي في هذه الفترة التاريخية أمر يصعب تحقيقه من وجهة نظري العلمية - التاريخية – ولكن ما يجب أن نتعلمه هو أن تحقيق ولو جزء بسيط من مبادئ الديموقراطية داخل مجتمعاتنا العربية سيكون بمثابة حاجز قوي أمام العديد من أنشطة العنف المتخفية تحت شعارات مختلفة والتي تسلك طريق الإرهاب أو الثورات أو الانقلابات العسكرية وغيرها لتحقيق أطماعها الفعلية، وقد يساعد على تحقيق بعض المبادئ، انتشار ثورة العولمة التي قد تعزز بعض إيجابياتها مفاهيم الديموقراطية التي لم يعد لنا بديل منها من أجل إزالة الأقنعة وكشف حقيقة بشاعة استغلال الإنسان، والدين، والوطن «لتحقيق الأهداف الخبيثة». * أكاديمية سعودية. [email protected]