يعاني الفيلم الوثائقي في إيران، شأنه في سائر الأرجاء، من عدم وجود تواصل حقيقي له مع الجمهور المحلي. وإن بدأ هذا الفيلم يزحف بين حين وآخر إلى شاشات دور العرض في الدول الغربية، فإن أمكنة عرضه لا تزال تنحصر في شكل أساس في المهرجانات سواء تلك المخصصة له أم المختصة بالسينما الروائية التي ما زال قابعاً تحت ظلها. وعلى رغم ضخامة الإنتاج الإيراني للوثائقي حيث ينتج سنوياً حوالى الثلاثة آلاف شريط، فهو لا يعرض في دور العرض ولا يدعم إلا على نحو محدود من مركز للفيلم الوثائقي والتجريبي، إذ يقدم المركز العون للعمل الأول أو الثاني، وقام هذا العام بالمساعدة لإنتاج 27 فيلماً. كما بدأ هذا المركز، ومنذ عامين، بتنظيم مهرجان دولي في طهران للسينما الوثائقية «سينما حقيقت» يعتبر في نظر المهتمين أفضل وسيلة لعرض الأفلام على الجمهور، وتخصص في المهرجان مسابقة للعمل الوطني تمنح فيها جوائز مالية للأعمال الفائزة. ويعتبر المخرجون هذا المهرجان «ملجأ ومكاناً لتجمعهم بحيث تستطيع السلطات ملاحظة أن ثمة أعداداً كبيرة تعمل في هذا الحقل»، بحسب تعبير أحدهم. كما يأملون منه أن يكون جسراً بينهم وبين الهيئات الثقافية والصناعية والتربوية والعلمية التي قد تستفيد من نتاجهم في نشاطاتها وفعالياتها. فحتى الآن لا يستفاد على النحو المرجو من هذه الأعمال وهو ما يسعى إليه مدير المهرجان الذي صرح في حديث في النشرة اليومية للمهرجان أن المركز يعمل على التعاون مع الهيئات المحلية والمحافظات والمراكز الثقافية للاستفادة من هذا الإنتاج الضخم من الوثائقي في إيران. غياب وعلى رغم أن شعار الدورة الثالثة من مهرجان «حقيقت» التي انتهت قبل أيام كان «السينما الوثائقية للجميع»، فقد خيّم غياب 136 عضواً من أعضاء جمعية العاملين في السينما الوثائقية الإيرانية ومنهم المخرجة رخشان بني اعتماد. وكان هؤلاء قد أعلنوا في آب (أغسطس) الماضي عن قرارهم بعدم المشاركة في المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي الذي سيعقد في طهران منتصف تشرين الأول (أكتوبر). ونشرت وكالة اسنا والصحف رسالة مفتوحة عنوانها: «لماذا نمتنع عن المشاركة في مهرجان سينما حقيقت هذا العام؟»، الأسباب التي دعتهم لاتخاذ هذا القرار. ومما ورد في الرسالة: «السينما الوثائقية في إيران هي مستند ثمين عن واقع المجتمع الإيراني منذ مئة عام. وعلى رغم كل العوائق والقيود، فإن هذه السينما تؤدي عملها منذ سنوات طويلة وقد استطاعت التأريخ لعدد من الأحداث وتركها في الذاكرة قبل الثورة وخلالها وبعدها وأثناء الحرب وفي العقدين الأخيرين. ولكن لسوء الحظ، فإن القيود التي تحمّلها الوثائقيون هذه الأيام في سبيل نقل صورة حقيقية عن مجتمعنا الملتهب، لم يسبق لها مثيل». واعتبر السينمائيون أن «شروط العمل تلك» تجبرهم على عدم المشاركة هذا العام على رغم أهمية هذا المهرجان «سينما حقيقت» والجو الفعال الإيجابي الذي يخلقه، وقالوا: «لا نستطيع إغلاق أعيننا عن المكان الخالي للوثائقي الذي لم يتم حول الأحداث الاجتماعية التي جرت أخيراً واحتراماً لقيمنا في التعبير عن الحقيقة فسنمتنع عن الحضور والمشاركة في المهرجان». ... وغياب آخر غاب كذلك المدعوون الأجانب لكن لم تغب أفلامهم، إذ شارك 35 فيلماً أجنبياً من 19 بلداً، منها فرنسا وبريطانيا وسويسرا وايطاليا، كما شارك حوالى 80 عملاً من إيران. وجرت العروض في «سينما فلسطين» القريبة من جامعة طهران وراعت التظاهرة خلق جو من الألفة يصبغ عادة التظاهرات الإيرانية بتقديم الحلويات والمشروبات على الجمهور والدخول المجاني إلى دار العرض ولكن لا أرقام لدينا عن مدى انحسار أو تزايد الحاضرين هذا العام. تضمن المهرجان سبعة أقسام منها: «مستند وسينما عن كبار المخرجين العالميين»، و «مستند روسية» وقسم خاص للوثائقي العلمي والديني. وهكذا من خلال مسابقة الأفلام الإيرانية كان هناك الوثائقي الاجتماعي والتاريخي والأثري والعلمي والديني. وتناولت أفلام أعمال حياة بعض الشخصيات كمؤرخ إيراني في التسعينات من العمر كشاهد على العصر، وأخرى رواية ضابط في الجيش لوقائع معركة الفاو «نبرد فاو»، كما قدم عمل آخر تأريخاً للعلاقات العراقية - الإيرانية منذ عهد الشاه وحتى قيام الحرب بعد إلغاء صدام حسين لاتفاقية الجزائر في منتصف السبعينات من القرن الماضي مع إيران. وأظهرت أعمال كثيرة الغنى الثقافي لإيران من خلال آثارها ومخطوطات مكتباتها الوطنية ونسخ الكتب القديمة التي تملأها. أما في الوثائقي الاجتماعي فكانت هناك متابعة ليوم معلم ومذيع في السجن ولمرضى وزائري مستشفى في سنندج الكردية حيث كل مكان مباح حتى حين يكتب «ممنوع الدخول!». هذا الشريط «اللقاء على الطريقة الإيرانية» لبهروز نورانيي بور جعل القاعة تضج بالضحك وأظهر في أسلوب ممتع سريع الإيقاع ومكثف تصرفات الزوار والمرضى داخل المستشفى مع كل ما في ذلك من مفارقات شديدة الطرافة من تدخين المرضى داخل المشفى وخارجه إلى كثرة عدد الزوار لمريض واحد، مروراً بالتخييم أمام المشفى والتجارة القائمة حوله... يذكر أخيراً من بين الأفلام المعروضة فيلم «من يقول لا ومن يقول نعم» لهومن عين إلهي عن العودة إلى «الخاطبة» والتي لم تكن هنا سوى مؤسسة صغيرة يديرها رجل حكيم نتبين في نهاية الأمر أنه رجل دين «عصري» يتوجه نحوه الشبان والشابات ليحظوا بالنصف الآخر.