يكشف كتاب «خبايا القاهرة» لأحمد محفوظ الصادر أخيراً عن «دار الشروق» المصرية، كثيراً من أسرار الليل في المدينة عبر تناول سردي لقصص وحكايات عن مقاهيها وباراتها ومسارحها في النصف الاول من القرن العشرين. ويعيد الاعتبار الى مؤلف مجهول كرس الكثير من وقته لكتابة «تاريخ المتعة» في مدينة محاصرة اليوم بشتى أنواع الاهمال، بينما كانت في الماضي بثقافتها القائمة على التعددية مدينة «كوسموبوليتية» بامتياز. وفي مقدمة الكتاب التي كتبها الصحافي يوسف الشريف الذي قدم من قبل كتباً مهمة عن «صعاليك الزمن الجميل»، وعن فرسان الليل من أمثال الشاعرين كامل الشناوي وعبدالرحمن الخميسي، اشارات كثيرة لما يسميه «التاريخ الوجداني» للقاهرة ومصادر فتنتها. وعلى رغم عمومية تلك المقدمة، إلا ان صاحبها يلفت فيها الى غياب هذا النوع من الكتابات عن المكتبة التاريخية المعاصرة على رغم المكانة التي في التراث العربي. ويملأ الكتاب ثغرات كثيرة كانت موجودة في كتابات جاءت بعده وأعدها عشاق القاهرة المعاصرون من أمثال كامل زهيري ومحمود السعدني ومحمد عودة وجمال الغيطاني والراحل عبدالمنعم شميس والصحافي محمد عبدالواحد والمؤرخ الهاوي فتحي حافظ الحديدي، لا سيما في كتاباته عن تاريخ المرافق في المدينة وما كتبه المسرحي الراحل ألفريد فرج في كتابه الاخير عن شارع عماد الدين. كما يتجاور بموضوعه مع ما كتبه محمد سيد كيلاني عن منطقة الازبكية. وفي مقدمته، يشير الشريف الى ان سيرة أحمد محفوظ تبدو مجهولة: «لاننا لا نعرف له مهنة أو عنواناً أو عمراً، كما لا نعرف له إنتاجاً أدبياً أو معرفياً سابقاً أو لاحقاً، إذ ان كل ما وصلنا عنه من معلومات، عنايته بالتنويه عن عزمه على طبع الكتاب في دار النشر العربي عام 1958». لكن قراءة الكتاب تشير بدقة الى انه كان وثيق الصلة بأدباء عصره وظرفائه، خصوصاً حافظ ابراهيم. كما ان له كتابين عن أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، كتب مقدمتهما عزيز باشا أباظة. وعلى رغم افتقار الكتاب الى منهج محدّد، إلا انه يتسم بالطرافة ولا يخلو من المتعة، فضلاً عن رشاقة الاسلوب ربما لأن صاحبه لم يطمح الى أكثر من التوثيق وتقديم «ليالى القاهرة وملاهيها ونواديها ومقاهيها وفنادقها وحياة التمثيل والغناء والحياة الاجتماعية والعادات والمعاش والأعراس والظرفاء والشحاذين والثورات والحياة النيابية». وفي سبيله لبلوغ هذا الهدف قدم لوحات نابضة بالحياة، خالية من الحس الاستشراقي ومن النزعة الغرائبية وفّق خلالها في جمع فقراء مصر مع ملوكها وساستها وحكامها من الاجانب والمحليين. ونجح كذلك في «ترميم الذاكرة الفنية» وتصحيح الكثير من المعلومات المرتبطة بالدور الذي لعبه فنانو بلاد الشام من أمثال سليم نقاش، يوسف خياط، إسكندر فرح، وأمين عطا الله، وبديعة مصابني في تاريخ المسرح الغنائي المصري الى جانب الوقوف على سنوات التكوين التي عاشها عباقرة فن التمثيل العربي من أمثال نجيب الريحاني ويوسف وهبي وأمينة رزق، فضلاً عن الملحن سيد درويش. ويشير كذلك الى ظروف نشأة فن المونولوغ الفكاهي حيث يفيد بأن أول من غنى المونولوغ في القاهرة: «ليلى» و «قمر» وهما يهوديتان كانتا تغنيان: (عصفوري يا مه عصفوري ... أرقص وأوري له أموري)، ومنهما انطلق فن المونولوغ الذي برع فيه عبدالقدوس والد الأديب الكبير إحسان عبدالقدوس وحسن فايق الذي شن حملة شعواء على تجار المخدرات في مونولوغه المعروف «شم الكوكايين خلاني مسكين»، قبل ان يجعل سيد سليمان وإسماعيل ياسين وشكوكو من هذا الفن فناً شعبياً ووسيلة من وسائل النقد الاجتماعي الفعال. ويذكر محفوظ في سعيه لتقصي الدور الذي لعبته مقاهي القاهرة حكايات طريفة عن مقاهي: «جروبى»، «ريش»، و«الكتبخانة»، مطعمة بالكثير من المعلومات المعتمدة في الغالب على مرويات شفاهية مصدرها مسامرات روداها من المبدعين. ولا يكتفي المؤلف بالوقوف على ما رآه في المقاهي، وإنما يطمح الى رصد تاريخ قطاع خدمي حيوي هو الفنادق المصرية بتوثيق الكثير عن بعضها مثل «شيبرد»، و«كونتيننتال»، و«سميراميس»، و«ماريوت عمر الخيام»، و«مينا هاوس»، والاخير بالذات كان مفضلاً لدى نجمات السينما الاميركية. ووقف الكتاب على بدايات هذا القطاع الخدمي المهم، ولا ينسى كذلك فنادق القاهرة المتوسطة مثل «كلاريدج» و«غراند اوتيل» فى شارع «26 يوليو»، وصولاً الى فنادق العتبة الخضراء وشارع «كلوت بك» التي يرتادها بسطاء الناس. ويفرد الكتاب مساحات لتناول البغاء في مصر قبل إلغاء الدعارة عام 1948. كما يرسم «بورتريهات» لمن كانوا قائمين على عالمها من رجال وسيدات من دون ان تخونه نبرته الاخلاقية. وكان بعضهم منخرطاً في أنشطة وطنية معادية للاستعمار مثلهم في ذلك مثل «الفتوات» الذين يسجل قصص وحكايات نادرة عن أبرزهم من دون ان يحرم قارئه من الاحالة على عالم روايات نجيب محفوظ بما يكشف عن ذائقة أدبية رفيعة تمتع بها المؤلف المجهول. وينتقل الكتاب لرصد تاريخ النوادي الرياضية التي بدأت كنوادٍ اجتماعية، متوقفاً في شكل تفصيلي أمام نادي «سبورتينغ»، او «الجزيرة» الذي كان ارتياده قاصراً على الاجانب المحتلين، منتهياً عند نوادٍ لا تزال قائمة حتى الآن مثل «الاهلي» و«الترسانة» و«الزمالك» و«السكك الحديد»، وهي النوادي التي تراجع دورها الاجتماعي وبات قاصراً على الشأن الرياضي. وهو تراجع غير بعيد من تراجعات كثيرة طاولت المجتمع المصري وأفقدته الكثير من علامات صحته، الامر الذي يجعل من صفحات الكتاب «وثيقة» دالة على «حيوية مصر» في الماضي ومرثية لزمن لا بد من وصفه ب «الزمن الجميل».