يشكّلُ تعثّرُ المصارف العالمية معضلةً بالغة التعقيد لدى الحكومات التي تتبصرُ آليات دعمٍ تنهض بالجهاز المصرفي من جهة، وتحفظ مال دافعي الضرائب من جهةٍ ثانية. فالأخطار التي تتهدّدُ مصارف كبرى، كانت تُظنُّ فولاذيةَ التحصين ومنيعةً عن الاختراق، جعلتها شبه مضطربة ومنزوية عن حقول نشاطها، تسعى إداراتها إلى ترميم قواعدها المالية، وتلملمُ نفقاتها الإضافية، وتضيّقُ شروط الائتمان، وتمسكُ عن الاقتصاد العام أنابيب الأوكسجين التمويلية، غير مبالية بالركود والاختناق. وخسر النظام المصرفي العالمي في 2008 نحو 792 بليون دولار بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، عوّضها بأنصبة مختلفة قيمتها 830 بليون دولار نصفها من مصادر عامة. لكن هذا التعويض لم يوقف الانهيارات المصرفية وتداعيات قيم أسهمها في أسواق المال، ولم يحل دون خشية المدّخرين على ودائعهم. وفشلت الخطط الأميركية، في التخفيف من عثرة القطاع المصرفي واستئناف الإقراض، على رغم انها ضخت السيولة في نحو 300 مصرف متعثر واستثمرت في عدد منها. وأعلن 48 مصرفاً إفلاسها (منها 23 هذه السنة حتى نهاية الأسبوع الماضي). وأدّى التزام المصارف تحصين موجوداتها المالية وتقتير قروضها إلى الاقتصاد العام، إلى سحب موجوداتها الخارجية من مصارف في بلدان ناشئة أو هي في مرحلة انتقالية، مثل مصارف في دول أوروبا الشرقية التي انضمّت إلى الاتحاد الأوروبي، فزعزعتها لأنها كانت تنمو بأموالها. وطبيعيٌّ أن تتسلّح المصارف بمثل هذا السلوك، فالأزمة في الأساس ليست أزمة سيولة، وإنما أزمة تلاشي رأس المال، وهذا لا يعوّم إلا بزيادة عدد الأسهم وبيعها من مستثمرين حاليين أو جددٍ، ومن الصعب إقناع المستثمرين بجدوى الاستثمار والقدرة على النهوض مجدداً. لذا تلجأ المصارف إلى وقف توزيع الأرباح لتضيفها إلى احتياطاتها أو رؤوس أموالها. فتوقفت مصارف في الولاياتالمتحدة مثل بنك أوف أميركا، عن صرف الأرباح أو خفض توزيعاتها، لتؤمن مصادر مال إضافية تواجه بها انخفاض قيم الأصول لديها. وهذا الأسلوب بطيء وقد لا يوفر الأموال اللازمة لإنقاذها، ويتطلب وقتاً طويلاً قد لا يتوافر لإنقاذ المصارف المهددة بالانهيار. ولهذا السبب عمدت مصارف أوروبية غربية إلى سحب موجوداتها الخارجية. وللإنقاذ السريع، لجأت بلدانٌ مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها، إلى شراء أنصبةٍ في مصارف كبرى ورئيسة في البلاد، من أجل تعويمها، في آليةٍ يصفها المسؤولون، خصوصاً في ألمانيا، بأنها «تأميمٌ موقت» من أجل تعويم المصارف المنهارة. وتهيّباً للموقف لحظ قادة مجموعة قمة العشرين، «الإخفاقات الكبرى في القطاع المالي وفي الإشراف المالي» التي مثّلت «أسباباً جوهرية في الأزمة». وأكدوا إعادة بناء هذا النظام من أجل استعادة الثقة. لكن دون ذلك مسافةٌ يجب أن تقود إلى الانتعاش الاقتصادي. هذه المسافة الفاصلة، أوجبت «التأميم». وكانت السويد شكّلت سابقةً عام 1992، إثر أزمة عقارية أدّت إلى تراجع قيم أصول المصارف، فأَلْزَمَتْ خطةُ إنقاذ الدائنين، باستثناء المساهمين، أن تتحمّل المصارف خسائرَ الأسهم، فتشتريها الحكومة بسعرها الجاري. وأسست الحكومة شركةً اشترت الأسهم المسمومة، وشكلت ما يسمى حالياً «البنك السيّء». ولم تبقِ في موازنة المصارف المؤممة، سوى الأسهم الجيّدة. وفي 1997 استكمل بيع الأسهم الرديئة بقيمةٍ خفّضت تكلفة خطة الإنقاذ من 4 إلى 2 في المئة من الناتج المحلي السويدي. وتشبه خطط الإنقاذ المصرفية في أميركا وأوروبا، الخطة السويدية، مع فارق إبقاء الأسهم الرديئة في محافظ المصارف المؤمَّمة. وأوجب هذا التدخل الحكومي في القطاع المصرفي، إشرافاً من قبل السلطات العامة، يعيد الثقة إلى المدخرين والمستثمرين. وهو إشراف يجعل السرّية المصرفية، في المصارف المنتشلة من الانهيار، تحت رقابة الدولة، وهي بداية للتعميم ولإخضاع الملاذات الضريبية للرقابة المتشدّدة. لكنها رقابة ضرورية كمرحلة انتقالية لضمان «تعزيز النظام المالي» الذي أقرته قمة لندن، (2 نيسان/أبريل الجاري) ب «اتخاذ إجراءاتٍ بمجرد ضمان الانتعاش، لتحسين الجودة والكمية والتساوق الدولي لرأس المال في النظام المصرفي». وتبعاً لآليات التدخل الحكومي، باتت الحكومات المغذّي الرئيس للجهاز المصرفي بالسيولة، وهي سيولة من أموال المكلّفين ولأجل حماية مدّخراتهم، وتالياً لتأمين انتعاش حركة الإقراض للاقتصاد أي للقطاع الخاص، قبل ان يستعيد هذا القطاع المبادرة لاحقاً في عمليات «تخصيص» مؤسسات المال «المؤممة»، يكون سبقها «منع تنظيم الرافعة المالية في شكل مبالغ فيه، وأن تكون هناك موارد مال واقية تؤسس في الأوقات الجيّدة». كما أقرّت قمة العشرين!