أقام تنظيم «داعش» بسرعة الضوء دولة توازي مساحة المملكة المتحدة على جانبي حدود العراق وسورية ويعيش تحت سقف هذه الدولة أكثر من ستة ملايين مواطن. ويرى عبدالباري عطوان في كتابه «الدولة الإسلامية ص- الجذور، التوحش، المستقبل» (عن دار الساقي في بيروت)، أن ظهور هذه «الدولة» تجاوز في أهميته «الربيع العربي» عندما هُدِّدت «أربيل» وخاف الغرب على سقوطها بأيدي تنظيم الدولة الإسلامية، حزمت الولاياتالمتحدة أمرها وقررت التدخل العسكري بالدعوة إلى قيام حلف دولي لاستعادة ما احتله تنظيم «داعش». كانت فرنسا قد سبقت الولاياتالمتحدة في استشعارها خطر «داعش»، عندما أخذت زمام المبادرة الديبلوماسية في مؤتمر ترأسه هولاند وحضره وزراء 20 دولة، وفيه قال الرئيس الفرنسي: التهديد عالمي والردّ يجب أن يكون عالمياً أيضاً، ووافقت 10 دول عربية فوراً على الالتحاق بالمبادرة الفرنسية، ومن ثم تشكّل تحالف بقيادة أميركا ضم 40 دولة. عندما بدأت واشنطن عملها الدولي ضد تنظيم الدولة أحدثت الضربات نتائج فورية أدت إلى تراجع «داعش» عن أراضٍ كان سيطر عليها حول «اربيل» وإلى انتزاع سد الموصل ذي الأهمية الاستراتيجية بعد معركة عنيفة. إن خسارة التنظيم لسد الموصل ولأراضٍ حول «أربيل» دفعته إلى التعويض عنها بربح في سورية فسيطر على مطار الطبقة آخر معاقل النظام في ولاية «الرقة» بعد أن استولى على قاعدة عسكرية غنم منها صواريخ أرض- جو قادرة على إسقاط طائرات بلا طيار ومروحيات وطائرات مقاتلة، ومن ثم واصل زحفه باتجاه حلب. ولأن الغارات الجوية غير كافية، لتحقيق الهزيمة كما كانت حال غارات مماثلة في أفغانستان واليمن وباكستان، اقترحت الولاياتالمتحدة إعادة تأهيل الجيش العراقي، وتحسين قدراته القتالية في محاولة جديدة منها، بعد أن درّبت 800 ألف جندي عراقي، وأنفقت من أجل ذلك 25 بليون دولار، وكانت النتيجة هروباً ساحقاً مع دخول جيش «الدولة الإسلامية» إلى قلب الموصل، حيث انهزم 30 ألف جندي عراقي قبل المعركة. وأشارت وزارة الخزانة الأميركية إلى أن «الدولة» تمكّنت من جمع ثروة بسرعة غير مسبوقة من خلال عائدات حقول النفط والمصافي، إضافة إلى الغنائم وتجارة السلاح ونهب البنوك وأموال الفدية لقاء الإفراج عن رهائن تحتجزهم. لقد سيطرت «الدولة» على 11 حقلاً نفطياً في سورية والعراق، وهي تبيع النفط الخام لتجار وسطاء يقومون بدورهم ببيعه لجهات أخرى. وهي تسيطر على حقول النفط الأساسية في سورية، بما في ذلك حقل «العمر» أكبر حقول النفط في البلد والذي ينتج 75 ألف برميل في اليوم. أما في العراق فتسيطر على حقول نفط صغيرة في «صلاح الدين» وفي ولاية «ديالى» الشرقية، بما في ذلك حقول «العجيل» و «حرمين». وبالتالي فإن مبيعات «الدولة» من النفط تعطيها مدخولاً يتراوح ما بين ثلاثة ملايين وخمسة ملايين دولار في اليوم. وتبعاً لهذا الوضع الاقتصادي يرى المؤلف أن فرص استمرار «الدولة» وتمددها أكبر من أي تنظيم آخر عرفته المنطقة الإسلامية، ومن غير المتوقع أن تختفي من الخريطة السياسية والعسكرية بسهولة. لقد فرض واقع «الدولة» متغيرات أدت عراقياً إلى استبدال السيد حيدر عبادي بالسيد المالكي الذي كان مستحيلاً قبل «داعش» ولكنه حتى الآن لم يغيّر كثيراً في الطابع الطائفي للحكومة، ولم ينل ثقة الطائفة السنّية بالشكل المطلوب، لذا فالمنطقة في رأي الكاتب مُقدِمة على حرب أهلية أشد شراسة من القائمة حالياً. وعلى الصعيد السوري، يرى أن الأسد يعي تماماً أن إعادة تأهيله في المجتمع الدولي منطوية في تعامله الإيجابي مع الحلف الدولي بهدف هزم تنظيم الدولة، لذلك «سمح» للولايات المتحدة بإرسال طائرات تجسس واستطلاع فوق الأجواء السورية، ومن ثم لطائرات «الدرون» المسلحة، وللمقاتلات الحربية التي قامت بعمليات قصف لمساعدة أكراد «كوباني» في دفاعهم عن أرضهم من هجمات التنظيم المستمرة. وعن مستقبل «الدولة» يرى عطوان أن احتمالات هزيمة التنظيم تبدو ضعيفة فيما احتمالات تفكيك العراق وسورية، أكبر دولتين عربيتين ومسقط ونشوء أهم امبراطوريتين إسلاميتين (الأموية والعباسية) تكبر يوماً بعد يوم على أسس طائفية واضحة المعالم تماماً مثلما حدث في الهند ويوغسلافيا، وهذا التفتيت المعتمد يأتي تطبيقاً لخريطة المفكر البريطاني برنارد لويس، وسيخدم حتماً «الدولة الإسلامية» التي تطمح أن تكون البديل من خلال صعودها القوي، وتمكّنها في مساحة الأرض التي تسيطر عليها.