أصابت المصالحة القطرية- المصرية الحكومة التركية بالإرباك الذي بدا واضحاً في تصريحات نائب رئيس الوزراء بولنت أرينش المكثفة عن رغبة بلاده في المصالحة مع مصر ودول الخليج، منتظراً من القاهرة خطوات حسن نية تتعلق بتنظيم الإخوان المسلمين لإطلاقها. وبمقدار ما تعكس تصريحات أرينش وجود انقسام في وجهات النظر حول العلاقة مع مصر ودول الخليج بين الحكومة والرئيس رجب طيب أردوغان، تظهر أيضاً مدى سطحية تناول أنقرة لهذا الموضوع الذي يسبب لها أزمة ديبلوماسية خانقة وحصاراً إقليمياً بدأت تبعاته تظهر على الاقتصاد. الطريق الى المصالحة التحرك التركي الآن جاء بعدما شعرت أنقرة بأن دائرة الحصار الإقليمي تضيق عليها، خصوصاً بعدما بدأت المياه تعود الى مجاريها بين حليفها الخليجي والعربي الوحيد قطر، وبين خصمها الذي ناصبته العداء منذ وصوله الى السلطة في مصر الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبعدما أدركت أن هذه المصالحة قد تعني ترحيل بقية ملف الإخوان لتتحمل أنقرة وحدها بعد ذلك وزره في المنطقة، فجاءت تصريحات أرينش التي لم يتراجع فيها عن وصف ما حدث في مصر ب «الانقلاب»، لكنه تحدث للمرة لأولى عن وجود «أمر واقع في مصر وقبول دولي للنظام الجديد هناك، ما يستدعي إعادة النظر في العلاقات معه»، معبّراً عن رغبة حكومته في علاقات طبيعية مع القاهرة ومصالحة مع الدول الخليجية، وتحديداً الإمارات العربية المتحدة والسعودية، حيث قال إن علاقات صداقة قديمة تجمع تركيا بهذه الدول ولا يمكن خلافاً سياسياً طارئاً أن يحول دون عودة أجواء الصداقة القديمة، واعترف بحق دول الخليج في موقفها مما حدث في مصر، قائلاً «إن هواجسها الأمنية قد دفعتها لاتخاذ موقف مخالف عن موقف تركيا تجاه ما يحدث في مصر، ويبدو هذا أمراً مفهوماً». وعقب تصريحات أرينش، جمع وزير الخارجية مولود جاوش أوغلو سفراء الدول العربية على عشاء خاص، وكرر الرسائل نفسها عن «أهمية تصفية الأجواء وترك الخلافات وتحييدها جانباً بين تركيا وكل الدول العربية». تصريحات أرينش وجاوش أوغلو تعتبر بالون اختبار لجس النبض، فمسؤولون أتراك كانوا يعوّلون على مصالحة شاملة إقليمية وليس مصالحة منفردة مع قطر وحدها، وكانوا يأملون أن أي مصالحة خليجية- قطرية أو مصرية- قطرية كانت ولا بد ستطاولهم. لذا سارع الرئيس أردوغان فور تنصيبه الى الدوحة بعد أيام قليلة من نشر خبر طرد بعض القيادات الإخوانية من قطر تمهيداً لمصالحة خليجية. أما وقد ضاعت فرصة المصالحة الشاملة، فإن لا بد من أن تسعى أنقرة بمفردها الآن لتلطيف الأجواء، مع بقاء احتمال طلبها العون والوساطة من الدوحة مستقبلاً في حال كان وقع إيقاع المصالحه القطرية- المصرية سريعاً ومتصلاً من دون عثرات أو انقطاع. الأمير تميم بن حمد آل ثاني صارح أردوغان بمشروع المصالحة مع مصر والخطوات التي ستترتب عليها خلال زيارته الى أنقرة التي جاءت قبل يوم واحد فقط من اعلان المصالحة القطرية- المصرية، وكان الكثير من حضور المؤتمر الصحافي في أنقرة قلقين من عودة أردوغان للتهجم على الرئيس السيسي في حضور ضيفه القطري الذي صارحه بمشروع المصالحة. فأردوغان لم يفوت أي فرصة لشن الهجوم على السيسي من قاعة الأممالمتحدة الى اللقاءات الخاصة بشكل تجاوز كل الأعراف الديبلوماسية محولاً الخلاف السياسي الى شخصي، لكن مصادر ديبلوماسية تركية قالت «إننا دهشنا من قدرة الأمير الشاب على ضبط انفعالات أردوغان والتأثير فيه بحيث لم يأتِ أردوغان في المؤتمر الصحافي المشترك على ذكر مصر، لا من قريب ولا من بعيد». شروط وضوابط السؤال الآن، ما هي حظوظ المساعي التركية للمصالحة مع مصر ودول الخليج؟ وهل اعلان نيات أرينش وشروطه يمكنها أن تحرك شيئاً على الأرض؟ يصعب القول إن تصريحات أرينش قد تحرك شيئاً حقيقياً على الأرض أو تتجاوز كونها بالون اختبار. فالخلاف السياسي بين الطرفين أكبر من أن يتم تجاوزه بالتذكير بعلاقات الصداقة القديمة والمصالح المشتركة، والمشاكل الشخصية التي أوجدها أردوغان مع قيادات الدول العربية، وبالأخص الرئيس عبدالفتاح السيسي تستلزم – كما يقول المصريون - على الأقل الاعتذار، لأن أردوغان حوّل الخلاف السياسي الى شخصي، وتصريحاته عن التدخل في الشأن العربي حملت نبرة امبريالية استعمارية غير مسبوقة في عهد سنوات حكم «العدالة والتنمية» وعلاقاته مع العالم العربي، كحديثه عن أن من حقه التدخل في شؤون مصر والدول العربية، لأنها كانت سابقاً جزءاً من الدولة العثمانية، والاهم من هذا وذاك، عدم ادراك القيادة التركية حجم الخراب الذي لحق بصورة تركيا لدى العالم العربي، إذ تحولت صورتها من شريك سابق وجار صديق، الى دولة إقليمية تحاول الهيمنة والتدخل في شكل سافر مثل إيران في شؤون العرب الداخلية. يمكن حصر نقاط الخلاف الواضحة بين تركيا من ناحية، ومصر ودول الخليج من ناحية أخرى بملفات عدة، منها ملف تنظيم الإخوان المسلمين الذي بات الكثير من الدول العربية يعتبره تنظيماً إرهابياً وخطراً على الامن القومي ومنتجاً للإرهاب والتطرف الديني بمختلف انواعه، بينما ترى فيه أنقرة نتاجاً لما يسمى «الربيع العربي» اغتصب حقه في الحكم، وتستخدمه كوسيلة للتدخل في شؤون الدول العربية، تماماً مثلما تفعل إيران من خلال تبنيها ملف الشيعة في العالم العربي. وهناك أيضاً ملف «داعش» و «النصرة»... فعلى رغم أن تركيا عملت مع دول خليجية على دعم المعارضة المسلحة السورية، إلا أن تركيا عملت في شكل منفرد على مشروع دخول المقاتلين الأجانب الى سورية، وكانت المدافع الأول عن جبهة النصرة – التي اعتبرتها دول الخليج وأميركا منذ البداية تنظيماً ارهابياً تابعاً للقاعدة - وهي التي ولدت «داعش» الحالية من رحمها، والخلاف العربي- التركي في الملف السوري يكاد ينحصر بالموقف من «داعش» و«النصرة». كما أن هناك الملف الليبي، فبينما تدعم مصر والإمارات والسعودية البرلمان المنتخب الشرعي وحكومة عبدالله الثني، تدعم تركيا المؤتمر العام المنتهية صلاحيته والجماعات الإسلامية هناك. وفي ما يتعلق بالملف الليبي، تتجاوز أنقرة الأعراف الديبلوماسية من جديد وتتصرف بأسلوب لا يليق بدولة لها وزنها في المنطقة، اذ أرسلت نهاية العام الماضي النائب البرلماني أمر الله إشلار ممثلاً خاصاً عن الرئيس رجب طيب أردوغان لتقديم الاعتراف بالبرلمان المنتخب وحكومته، فسلّم البرلمان الليبي رسالة أردوغان المؤكدة الاعتراف الرسمي به، لكن على الفور طار بعدها إشلار الى مصراته ليقول عكس ما قاله في درنه ويؤكد دعم تركيا للمؤتمر العام وحكومته، معتقداً بأن حديثه لن يسرب الى وسائل الإعلام. وفي مقابل سياسة «الوجهين هذه»، احتمت الخارجية التركية ببيان غير واضح عن دعم تركيا «الحكومة الليبية» من دون تحديد أي الحكومتين تعني، وأعلنت استئناف رحلات الخطوط الجوية الى مصراته، مما زاد شكوك حكومة الثني بأن تركيا تنوي ارسال السلاح الى المقاتلين هناك تحت ستار استئناف الرحلات الجوية. لكن الخارجية التركية بعد ذلك سربت أنها تعترف بحكومة درنه، لكن لا يمكنها ان تتجاهل القوة الأخرى على الأرض، لذا فإنها تقف على مسافة متساوية من كلا الطرفين، مؤكدة بذلك ما جاء في زيارة إشلار لليبيا، وهي سياسة لا تليق بدولة لها ثقلها في المنطقة، لكن هذه السياسة «الصبيانية» كانت نتاجاً طبيعياً لتخريجات التوفيق بين رغبات الرئيس أردوغان التي لا تعرف أي ضوابط ديبلوماسية أو سياسية، والتزامات الخارجية التركية بالمعايير الدولية للعلاقات بين الدول. وعليه، تبدو الخلافات قوية وعميقة بين الطرفين التركي والمصري الخليجي، وهي خلافات تتعلق بالامن القومي للدول العربية وليس مجرد مصالح اقتصادية قد تصاب بالضرر نتيجة هذا الخلاف. وبالتالي، فإن تجاوز هذه الخلافات يتطلب تحركاً أكثر جدية من أنقرة من تصريحات أرينش، ناهيك بسؤال مهم يقول: من يمثل أرينش؟ وهل الرئيس رجب طيب أردوغان مقتنع بهذه التصريحات وبهذا التوجه؟ وهل يمكن الوثوق بتحركات الحكومة طالما أن الحاكم الحقيقي لكل مفاصل الدولة في تركيا هو الرئيس أردوغان؟ ملاحظات سطحية المشكلة الحقيقية التي لا تدركها أنقرة الآن، هي أن بمقدار القبول السياسي والشعبي الذي كانت تتمتع به حكومة العدالة والتنمية سابقاً في الدول العربية، يبدو الرفض السياسي والشعبي لها اليوم في الشارع العربي غير مسبوق، بسبب سياسات الرئيس رجب طيب أردوغان وتصريحاته، وسياسة تركيا الخارجية في السنوات الثلاث الأخيرة، اذ يبدو أن تركيا فقدت جميع اصدقائها في العالم العربي، عدا خط الاسلام السياسي، وهو تيار بات اليوم في أضعف حالاته ومطالب بمراجعات حقيقية لسياساته وأهدافه، فيما فقدت حكومة العدالة والتنمية الصورة القديمة التي كان يرى فيها كثيرون أملاً في أن تكون نموذجاً اصلاحياً للتيارات الاسلامية المتشددة. فبعد كل ما حصل، ما عادت حكومة العدالة والتنمية تختلف عن أي تنظيم اسلامي في العالم العربي، على الاقل من وجهة نظر الشارع العربي. اذ فقدت تركيا صدقيتها خلال هذه السنوات، وبعدما كانت الأطراف العربية تثق في الحكومة التركية كوسيط محايد ونزيه، بل وشريك في مشاريعها السياسية، باتت تنظر اليها اليوم نظرة ريبة وشك وعدم ثقه، (لا يمكن نسيان صورة اجتماع وزراء الخارجية العرب في المغرب خريف 2011 حيث جلس أحمد داود أوغلو على طاولة الاجتماع الذي غابت عنه سورية بعد تعليق عضويتها وكأن تركيا أخذت محل دولة عربية مؤسسة في جامعة الدول العربية)، باتت تركيا اليوم إيران ثانية في المنطقة تستغل النفوذ الديني من أجل التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، فالسياسة الخارجية التي انتهجتها حكومة العدالة والتنمية خلال سنوات «الربيع العربي» دفعت كثيراً من الأوساط العربية لتغيير رأيها في حكومة العدالة والتنمية والنظر اليها قوية تحاول فرض نفوذها وسيطرتها على المنطقة وليس شريكاً على أساس الندية وتبادل المصالح كما كان ينظر اليها سابقاً. وحتى إن سارت الأمور في مصر كما تمناها بولنت أرينش ضمن «شروطه للمصالحة مع مصر» وخرج عدد من قيادات الإخوان من السجن أو الرئيس السابق محمد مرسي، فإن ذلك – إن حدث – لا بد من أن يكون نتيجة طبيعية لإغلاق ملف الاخوان بعد اعترافهم هم أيضاً بقبول الامر الواقع، وترك سياساتهم الحالية والتعهد بالعمل في شكل مختلف تماماً ووفق الضوابط السياسية الجديدة، ولن يكون ذلك نتيجة لصفقة تضغط فيها تركيا على الإخوان مقابل مصالحة مع مصر أو دول الخليج. فمصر والدول العربية باتت اليوم أكثر حزماً وإصراراً على منع التدخل الخارجي في شؤونها ومشاكلها الداخلية، وكما لن تقبل هذه الدول التفاوض مع ايران على حقوق الشيعة في الدول العربية، فهي أيضاً لن تقبل أن تتفاوض مع أنقرة على ملف الإخوان. وإن بدا على السطح أن ملف الإخوان على رأس أجندة الخلافات وأصعبها وأكثرها تعقيداً، فإن الخلافات حول ليبيا والملف السوري هي الأصعب، لأن تركيا كدولة كبيرة يمكنها التعامل مع ملف الإخوان بسهولة أكبر من تعاملها مع ملفي ليبيا وسورية اللتين باتت تربط تركيا بهما علاقات امنية واستخباراتية، يصعب فكها أو تغييرها بسهولة.