تؤكد المؤشرات أن كثيراً من القوى المحلية والدولية (وفي مقدمتها إسرائيل) لا مصلحة لها في تقوية السلطة الفلسطينية، ولا إضفاء الصدقية على سياساتها. وإذا كان يمكن تفهم هذا الأمر، بواقع تضارب الرؤى والمصالح، في منطقة جدّ مضطربة، وتخضع لتجاذبات دولية وإقليمية متباينة، فمن غير المفهوم ولا المعقول، أن تسهل السلطة نفسها هذا الأمر، من طريق بعض السياسات والممارسات التي تنتهجها. ففي ظرف أسابيع قليلة بدت السلطة كمن يطلق النار على قدميه، باستئنافها المفاوضات مع إسرائيل، من دون أن تستجيب هذه شرط تجميد الاستيطان، وبموافقتها على تأجيل البتّ بتقرير لجنة تقصي الحقائق الدولية، الذي اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة. ففي هذين الموقفين فقدت السلطة جزءاً كبيراً من رصيدها وصدقيتها إزاء شعبها، وإزاء المجتمع الدولي المتعاطف معها. كما أنها بهذين الموقفين ليس فقط جردت نفسها من أوراق الضغط السياسية، بل إنها أيضاً أضعفت القوة الأخلاقية للقضية الفلسطينية. وبديهي أن مسؤولية ذلك تقع على الرئيس محمود عباس، الذي كان صرّح مراراً بأنه لن يلتقي نتنياهو، ولن يستأنف المفاوضات، قبل تجميد إسرائيل للأنشطة الاستيطانية، التي تلتهم أراضي الضفة، وتقطع التواصل بينها، وتشكل عقبة أمام إمكان قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. ففي ظل هذا الموقف، وفي ظل سعي إسرائيل لتهويد القدس عن طريق اقتلاع الفلسطينيين منها، وهدم منازلهم أو احتلالها، وفي ظل مواصلة الحصار الظالم على غزة، من دون مبرر (حيث لم تعد ثمة مقاومة لا بالرصاص ولا بالصورايخ!)، وبالنظر إلى رفض إسرائيل تحديد مآل المفاوضات والهدف النهائي منها، لم يكن ثمة مبرر لرئيس السلطة للقاء نتنياهو، ولا تكرار معزوفة أن لا بديل للسلطة عن المفاوضات سوى الاستمرار في المفاوضات. وإذا كانت ردة الفعل على استئناف السلطة مفاوضاتها مع إسرائيل جاءت عادية ومتوقعة، فإن ردة الفعل على قيامها بطلب تأجيل النظر بتقرير غولدستون جاءت شديدة وغير متوقعة، إلى درجة أن قياداتها بدت في غاية الحرج، وكأنها أخذت على حين غرة، بدليل البلبة التي حصلت في مواقفها (ومواقف قيادة «فتح»)، فثمة من انتقد قرار التأجيل، وثمة من حاول تبريره بذرائع غير مقنعة البتة. اللافت أن إسرائيل لم تقف ساكتة إزاء هذا الجدل الذي يزعزع مكانة السلطة، إذ سرعان ما دخلت على الخط بقوة، وسرّبت تقارير (في صحفها) أشارت فيها إلى العوامل الضاغطة التي أدت إلى اتخاذ الرئيس الفلسطيني قراره هذا. وضمن هذه التسريبات ثمة ما هو مفهوم ومتوقع مثل الضغط الأميركي على السلطة، وتهديد إسرائيل بوقف المفاوضات معها، لكن ثمة حيثيات غير معروفة أو مفهومة، مثل ادعاء إسرائيل بوجود مكالمات هاتفية مسجلة لديها، تتضمن تحريض قياديين في السلطة لإسرائيل على «حماس» إبان الحرب الإسرائيلية على غزة، وتهديد اسرائيل أيضًا بعدم إعطاء موجة بث لشركة اتصالات فلسطينية، (سرت شائعات أن ثمة مصلحة لنجل الرئيس محمود عباس فيها). طبعاً ثمة ما يريب في توظيف إسرائيل لهكذا تسريبات، التي تخدم في إضعاف السلطة إزاء شعبها، وإضعاف موقفها التفاوضي إزاء إسرائيل. لكن وبغض النظر عن صحة هذه الاتهامات أو عدمها، فإن السلطة تجاهلتها وتعاملت معها باستخفاف، من دون ان تكلف نفسها عناء التوضيح والرد، وفي ظرف يفترض فيه أن تتعامل بجدية عالية مع هذا الأمر، كونه يمس مكانتها وصدقيتها وشرعيتها في تمثيل الفلسطينيين، خصوصاً أن ثمة واقعاً في الثقافة والممارسة السياسيين في الساحة الفلسطينية يؤيدها ولا ينفيها. وبالنسبة الى تهمة التحريض، فإن المشهد الفلسطيني يفيد أن التصارع بين «فتح» و»حماس»، وبين «سلطتي» رام اللهوغزة، يكاد يكون بديلاً للصراع مع إسرائيل، حيث الصراع على السلطة بين الحركتين الفلسطينيتين بات أهم من الصراع من اجل دحر الاحتلال، مع ما في ذلك من تداعيات. أما الاتهامات التي توحي بوجود صفقات ومصالح تقف وراء التأجيل، فثمة في ممارسات بعض قيادات السلطة، ما يؤكد أن مصالحهم الخاصة تغلب احياناً المصالح العامة. فإذا كان من الممكن تفهم عجز السلطة إزاء إسرائيل، فمن غير المفهوم السكوت عن نمو المصالح الشخصية من حولها، في ظل غياب القانون وغياب المكاشفة والمساءلة والمحاسبة، وفي ظل تغليب ثقافة وامتيازات السلطة على ثقافة حركة التحرر الوطني ومتطلباتها. وإذا كان يمكن تفهم عجز السلطة إزاء إسرائيل، وإزاء انجاز دحر الاحتلال، فمن غير المقبول عدم قيام السلطة بما من شأنه ترسيخ كيانها على أسس مؤسسية وديموقراطية، وتقاعسها عن خلق واقع يوفر مشاركة شعبية ممأسسة وفاعلة حولها. كما من غير المفهوم بقاء السلطة على شكل سلطة فردية، يتم صنع القرار فيها بطريقة عشوائية ومزاجية، في ظل غياب مراكز صنع القرار، وعدم الاهتمام ببناء ولو مركز أبحاث واحد، يتيح للمعنيين في السلطة الاطلاع على المعطيات والخيارات والبدائل. لذلك على الفلسطينيين وقياداتهم تدارك هذا الوضع المتدهور، ووضع حد للتسيب الحاصل في حركتهم الوطنية، وكيانهم السياسي (السلطة)، وتصويب أوضاعهم ومواقفهم، برغم كل الثمن الذي سيتبع ذلك. وعلى الأخص فإن المطلوب استعادة طابع حركة التحرر الوطني، وبناء الكيان الفلسطيني على أسس تغلّب البعد المؤسساتي على البعد الشخصي والفصائلي. وما يجب أن تعلمه «حماس» أن خطيئة السلطة في التعامل مع تقرير غولدستون، لا تحجب سياسة الحسم العسكري التي اعتمدتها لحسم الصراع في الساحة الفلسطينية. تماماً مثلما أن خطيئة «حماس» في الهيمنة الشمولية والأحادية على غزة لا تبرر سياسة احتكار القرار المعتمدة من قبل قيادة «فتح». * كاتب فلسطيني