كان الصديق والزميل محمد فرحات يتردد على مكتبي، الذي كان يطلق عليه اسم «الدكانة» كثيراً، وكنت أضع صور الإرهابيين والقوائم التي تصدرها وزارة الداخلية عنهم، على جدران مكتبي، وكلما سقط أحدهم أضع على صورته علامة (x). سألني محمد عن الصور والقوائم وسر علامة (x) فشرحت له السبب، فقال لي: شاعر وتعد الموتى..، فقلت له: الشعر لإرضاء ذاتي وأصدقائي، أما عدّ الموتى، فمنه أعتاش يا صديقي. كنت أعدّ الموتى من الإرهابيين، فأصبحت أعد الموتى من الأصدقاء، بعضهم مات وحيداً في أقصى شمال الكرة الأرضية، والبعض الآخر مات منفياً داخل بلده. رثيت الأستاذ الكبير عبدالله نور الذي توفي وحيداً في مركز طبي جنوبالرياض، ورثيت كمال سبتي الذي مات وحيداً -أيضاً- في مالوم جنوبالسويد، كما رثيت أصدقاء حصدتهم مفخخات الإرهاب في بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت. اليوم، أكتب بدمي ودموعي، عن أخي وصديقي الشاعر محمد النفيعي الذي توفي بالأمس منفياً في ذاته وبعيداً منها. رحل النفيعي بعد ساعات من رثائه لمعلمه الشاعر رشيد الزلامي. كان محمد النفيعي يتحرك بين الأماكن التي يرتادها، مثل نسمة صحراوية. كان يشبه زهرة خزامى. شديد العناية بمظهره الخارجي والداخلي، وهو ما انعكس على مفردته شعراً ونثراً. كان يحب الاختزال. لم يكن ثرثاراً. يتحدث في ما يعرف فقط. كان محمد النفيعي حضرياً موغلاً في البداوة. يرى في بداوته التي اختار منها الأجمل سلوكاً حضارياً لا يتعارض مع مفردات العصر وروحه. كان شديد العناية بأصدقائه. يهتم بهم حتى في لحظات صخبه القصوى. يتابع نتاجهم الشعري والنثري ويحرص على نشره في الصحيفة التي يعمل فيها. إذا غاب أحد أصدقاء النفيعي عن القراء لفترة طويلة، يعمل محمد على مشاغبته عبر الصحافة، ليعيده إلى الضوء الذي يستحق. أمضى حياته في طرقات جدة متنقلاً من منزله إلى المدرسة التي يعمل فيها إلى منازل أصدقائه، ومات النفيعي في جدة، بعد أن صارع المرض ولم يستسلم له لأعوام عدة. كان عصياً على الاستسلام.. عنيداً، قاتل المرض بالبسمة والحب والتفاؤل، وقبل ذلك بالرضا بما كتب الله عليه وله. رحم الله صديقي محمد النفيعي وأسكنه فسيح جناته، فقد عاش نسمة تبعث على الانتعاش، لا الانكماش، وأسأل الله أن تهتز «قصبة» الجهات المعنية لتأمين عائلة محمد النفيعي وألا يُتركوا لرياح المزاجية. رحم الله صديقي محمد النفيعي عاش أبيض، ورحل متشحاً البياض كله.