يمكن للشاب أن يحب ويغازل ويرقم و«يدبل» عينيه في «المول» فقط! أما في السوق الشعبي فانْسَ حتى ولو كان برفقة زوجته، فمن المؤكد أنه قد يطلقها قبل أن يعود بها إلى المنزل. «ايش هادا نفر»، بل قل نفور، بضائع رخيصة، عمالة رخيصة وخليط متجانس من بشر كل يزعق على أرتال من بضاعة صفت بفوضى وأسعار تبدأ بريالين ولا تنتهي عند عشرة. أما أسماء المحال التي عادة ما كانت تشير إلى الصدق والتجارة الشريفة والأمانة، لم يعد لها وجود مثلما كنت تقرأ لافتة للمحل: بقالة الوفاء أو دكان الإخلاص، استبدلت بدكاكين بلاش ورخيص، وتفضل وتفرج على البضائع المنثورة كالمجنونة بكل الغبار والرطوبة داخل المحل، وعلى الرصيف الوسخ بكل ما للقذارة من أمراض وحمى ضنك وأنفلونزا طيور وحمير وخنازير، وما تنزف به قريحة الدول المصنعة للأدوية المضادة ما جادت به قريحتهم حتى أن لا بلدياتهم ولا البلدية لدينا تعود تنفع لتفعل وماذا تفعل. وحدها البلدية في السوق الشعبي اسمها الأمانة وما تبقى فانس الأمانة! الكل يبيع على هواه، والتسعيرة على حسب الزبون وهندامه، من دون احترام له. فلا سمعة محل يهتم بها صاحب المحل، بل إنه مثل البائع الأجنبي يفكر على مبدأ «اضرب واهرب» طالما أن البائع يدري أنه عائد إلى بلده في يوماً ما، وأن الكفيل آت ليأخذ الغلّة. يا تُرى أين هذا الكفيل؟ إن بحثت عنه في السوق الشعبية، لن تجده ولن تجد من يلقي عليك تحية: حياك! ولن يلقي عليك كلمة شكر مهذبة ووداع لطيف. لن تسمع من لغة الحياة سوى تكسير اللغة العربية وتشويه الكلام في هذا السوق الاستهلاكي المحض، لن تشم رائحة البخور والعود وتتمتع بألوان البهارات وتبهر بحرف يدوية ولا تحلم بعبير الورد وزهر الليمون، ولن أقول لك ماذا ستشم لو اقتربت من الباعة فكفاك ما تشمه في ساحات السوق لو وجدت ساحات أو مساحات. لا تتسكع في هذا السوق الشعبي أكثر من عشر دقائق لأنك بعدها ستشعر بالترنح والدوران حول نفسك، خصوصاً من المراوح التي تضرب على رأسك وعلى كتفك، فالسوق مكتظ بالبضائع والزواريب والحواري والدكاكين والمستودعات والعمالة التي تجد نفسك تائهاً فيها، فلا تعرف أين أنت. ومهما حاولت البحث عن عيون سعودية، عن لكنة محلية فلن تجد، عن لهجة تتوق أذناك لسماعها بمفردات قديمة، تراثية، بمعاني جديدة فإني أؤكد لك مرة أخرى أنك لن تسمع «حياك» و «يا هلا بك»، أن تبحث عن مواطن عادي يقف خلف بسطة، يتواصل معك بعفوية البدوي وصدقه وشهامته فهذا أمر صعب المنال في السوق الشعبي. ستسمع ترجمة ركيكة للكلام ولن ترى العيون السعودية المكحلة ولن تسمع صوتاً سعودياً يحدو كما الجمال ويعيد للسوق الشعبي شبابه وحياته. إن السعودي هو الكفيل: بابا كبير فقط، يمر على الدكان ليجمع الغلة، فكره وعقله واستراتيجيته في الغلة وليس في نظافة الدكان ونظافة البائع ونظافة التعامل ونظافة اللسان ونظافة الإنسان ونظافة الأوراق الرسمية أيضاًً، ولو كنت شرطياً فلا أدري كيف سأتفاهم مع كل المتواجدين هناك، فسأكون حتماً في حاجة إلى مترجمين محلفين ليفهم كل «هادا القرقر». ماذا تفعل في هذه الحالة وزارة الصحة ووزارة التجارة وغرفها وصالوناتها ومراحيضها أيضاً، وماذا تفعل البلديات وماذا يفعل وزير العمل؟ هل يدخل إلى غرفة كل بابا كفيل ويصحيه: قم يا نائم! ويطلب منه بكل أدب رفيع ومتين أن يرفع من على باب غرفته شعار: «الرجاء عدم الإزعاج». طب الموظف وفهمنا، البطالة وفهمنا، السعودة وفهمنا، كمان التاجر؟ إذن يا أخي ماذا يفعل كل الوزراء المعنيين والمعينين إذا كان السوق الشعبي الذي غالباً ما يكون قلب المدينة ووسطها ويعني خليط الشعب، يتحول عندنا إلى بضائع مستوردة وعمالة مستوردة ولغة عربية ركيكة مستوردة وكفيل نائم! المؤكد إذاً أنك لن تسمع لغة عربية رقيقة ولا شاعرية حالمة، ولكل من يتضايق من الشباب في المول أنصحه أن يزور السوق الشعبي فإنه لن يجد الشباب ولا الشابات ولن يجد الحب أيضاً ولا مفرداته ولا امرؤ القيس ولا عنترة ولا عمر ابن ربيعة. خلف الزاوية بالأمس كان بقرب النهر موعدنا لتلتقي في الحب روحانا لا أنت جئت ولا جئت المكان أنا والنهر من هجرنا في غربة كانا [email protected]