لا تنجيم ولا قراءة في الفنجان في أن يحلف أحد بأغلظ الأيْمان، مؤكداً أن الرئيسين التونسي زين العابدين بن علي والسوداني عمر البشير سيفوزان في الانتخابات الرئاسية في بلديهما في تشرين الأول (أكتوبر) الحالي ونيسان (إبريل) المقبل على التوالي. ولا يصدُر هذا التأكيد عن تخمينٍ بأن تزويراً سيجرى في الواقعتين الاقتراعيتين، ليس فقط تصديقاً لتشديد السلطات التونسية على نزاهةٍ ستتحقق، ولقول البشير أنه وأهل حزبه (المؤتمر الوطني) يخافون الله ولن يتقربوا إليه بالتزوير، بل هي أولى البديهيات في النظام السياسي العربي، الجمهوري. طبعاً، أن الرئيس المقيم في السلطة لا يخفق أبداً في موقعة انتخابية ينافسه فيها مرشحون من رعاياه، وهذه من المسلمات التي لم يخرمها أحد من أصحاب الفخامة العرب، منذ اجترح الرئيس الموريتاني، المنقلب عليه لاحقاً، العقيد معاوية ولد الطايع، بدعة الانتخابات الرئاسية التعددية في 1992، وأخذَ بها، ونافسه مرشحون آخرون، تمكّن منهم ومكث رئيساً. واستحسن الرجل هذه «البدعة»، وآثرها على صيغة الاستفتاء المقيتة، أو انتخاب المرشح الواحد، والتي كان قد ملّها الجمهور العربي العريض، منذ استطابها جمال عبد الناصر في 1955، ودأب عليها آخرون طوال نحو ثلاثين عاماً. وفي البال أن ولد الطايع الذي أمسك بالسلطة بعد انقلاب بادر إليه في 1984 استنسخ تلك الحادثة الانتخابية التعددية، والمبتكرة عربياً، مرتين أخريين في 1997 و2003، وكان فوزه مؤزراً فيهما على منافسيه، وربما كانت ستتجدد له سانحة رابعة من الطقس الاقتراعي هذا، لو لم يقيض النجاح لانقلاب عسكري عليه في صيف 2005 . لم يكن محقاً كثيراً المعارض التونسي أحمد نجيب الشابي، من الحزب الديموقراطي التقدمي، حين ساق «الافتقاد إلى أدنى شروط الحرية والنزاهة والشفافية» سبباً لانسحابه في آب (أغسطس) الماضي من السباق الرئاسي (المرتقب؟) في بلاده ، فلا حاجة لأي نظام سياسي عربي لتزوير، أو تلاعب، في الانتخابات الرئاسية تحديداً، (لا ينسحب الأمر على النيابية بالضرورة)، لا لشيء إلا لأن المجتمعات العربية غير المدرّبة جيداً على التمارين الديموقراطية الحقيقية لا ترى في من ينافسون الرئيس المقيم رئيساً في بلادهم أهلية وكفاءة تجعلان أياً منهم الأصلح، لأسباب يطول شرحها، وتنظر إلى رئيس الجمهورية على أنه الأجدر من الجميع، طالما أنه الذي بيده مقاليد السلطة وصناعة القرار. ولأن الأمر على هذا النحو، وبعيداً من التفاصيل، قد لا نكون في حاجة إلى معرفة من سينافس الرئيس عمر البشير من معارضيه في الأحزاب السودانية التي اجتمعت، قبل أيام، في جوبا، في مؤتمر دلّت مداولاته على ضعف بناها الذاتية، وقلة الجاذبية فيها، وعجزها عن التحرر من حالها البائس، أمام قدرة حزب المؤتمر الوطني الذي جدّد رئاسة البشير له على احتكار الفاعلية السياسية، والقدرة أيضاً على المراوغة والبراغماتية. ليست الحاجة ملحة لمعرفة أسماء الذين سيكونون خصوم الرئيس السوداني في نيسان (إبريل)، وفي البال أن واقعة انتخابية أولى هناك أجريت واحتفظ فيها البشير بالرئاسة، وهو الذي قدم إلى السلطة في انقلاب غير منسي في صيف 1989. وإذ نعلم الآن أن ثلاثة مرشحين ينافسون في تونس الرئيس زين العابدين بن علي (73 عاماً) في خوضه «معركة» ولاية خامسة له، بعد إعلان أسمائهم رسمياً، فذلك من نوافل المعرفة التي لا تضرّ ولا تنفع، مع كل التقدير لهم، ومنهم المعارض الوحيد، الأمين العام لحركة التجديد أحمد إبراهيم، والذي غمز من قناة زملائه، حين اعتبر نفسه المرشح الوحيد ذا الصدقية. وكما الحالة السودانية، ليس في أرشيف الذاكرة ما يُعين على استدعاء أسماء منافسي الرئيس في مواسم الاقتراع في الانتخابات التعددية في 1994 و1999 و2004، وفي البال أن تعديلات على دستور تونس أجريت، لتتيح لبن علي ما يمكن تسميته «التجديد الانتخابي الاقتراعي»، وهو الذي أمسك بالسلطة في 1987، بعد «انقلاب طبي» على الحبيب بورقيبة . لم يعرف بلد عربي يأخذ بالتعددية الحزبية، والانتخابات النيابية والرئاسية، حالة واحدة شذّت عن تلك البديهية المسلم بها، وفي أرشيفها أن ياسر عرفات بادر أيضاً إلى تجريب مُزحة أن ينافسه منافسون في انتخابات يقترع في أثنائها فلسطينيون، ليختاروه أو يختاروا غيره، ونافسته الراحلة سميحة خليل في حادثة 1996. واستقرت هذه السابقة فلسطينياً، والمنصوص عليها في قانون أساسي، فبارزت ثلاث شخصيات مقدّرة الرئيس محمود عباس في انتخابات ما بعد وفاة عرفات. وفي اليمن، أعلن الرئيس علي عبد الله صالح، قبل آخر فوز له في آخر انتخابات رئاسية في بلاده، أنه لن يخوضها، ويُؤثر أن يقود دفة السفينة غيره، إلا أنه ما لبث أن آثر المكوث قائداً للسفينة المذكورة في جولة، تعددية أيضاً، في 2006 . واستحدثت الجزائر تعديلاً دستورياً في 2007، أباح للرئيس عبد العزيز بوتفليقة موسماً انتخابياً ثالثاً، فاز فيه بالاحتفاظ بقيادة بلاده . وفي الأرشيف نفسه، ثمة هزيمة الرئيس المصري حسني مبارك تسعة مرشحين حزبيين في انتخابات 2005، بعد تعديل دستوري شهير. كادت محطةٌ وحيدةُ أن تكون اختلافاً حقيقياً عن الحالة الديكورية الموصوفة أعلاه، وربما أبهجت العرب بسبب سمتها هذا، غير أنها سرعان ما اختلت وسقطت، ومضت وكأنها كانت مجرد مزحة. حدث هذا في موريتانيا، في فوز التكنوقراطي سيدي ولد الشيخ عبد الله بالرئاسة على منافسه أحمد ولد داده، بعد أن كانا من بين 19 مرشحاً في انتخابات أجريت جولتها الثانية في آذار (مارس) 2007، وسبقتها مناظرة تلفزيونية بينهما. واستحقت التجربة أن توصف، في حينه، بأنها استثنائية في الفضاء العربي العام، لا سيما وأن حواراً موسعاً في شأن كل الملفات الداخلية، شاركت فيه جميع أطياف الحقل السياسي في موريتانيا، أعقبه استفتاء على دستور جديد. وذلك كله بعد نجاح انقلاب أزاح فيه جنرالاتٌ ولد الطايع في آب (أغسطس) 2005، شكلوا «المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية»، كان مبعث تنويه به أن أعضاءه لم يجيزوا لأيّ منهم الترشح في الانتخابات الرئاسية. وفيما شاعت مقادير من البهجة في أوساط عربية، معنية بالتغيير والإصلاح وتعزيز الديموقراطية وتداول السلطة، وفيما اشتهى ناشطون «كيفية عسكرية» تمهد للتغيير في غير بلد عربي، يماثل ما جرى في موريتانيا، فيما كان ذلك كله وغيره ظاهراً، استجدّت خيبة الأمل الكبرى، عندما انعطف هذا البلد العربي الفقير(3 ملايين نسمة) إلى المألوف من وقائع الحكم عربياً، في الانقلاب العسكري على كل تلك التجربة، وقام به العضو البارز في ذلك المجلس، الجنرال محمد ولد عبد العزيز (53 عاماً)، ثم سلك طقوس المسار الديموقراطي الديكوري العربي ذاته، والذي من تفاصيله الأولى تنظيم انتخابات رئاسية، يكون الرئيس أحد المرشحين فيفوز فيها، وتمّ للرجل ما أراد في انتخابات تموز (يوليو) الماضي، وكان من بين أربعة عسكريين وخمسة مدنيين تنافسوا، و «انتصر» الرئيس بحصوله على 52 بالمئة من الأصوات، وهي نسبة طريفة عربياً. ولكن، أين منها الطرفة الأذكى في أن يتعمد الرئيس المنتخب أن يكون تنصيبه في الصيف الماضي عشية الذكرى الأولى على انقلابه على سيدي ولد الشيخ عبد الله، أول وآخر رئيس عربي يكسب رئاسة بلاده في انتخابات تعددية حقيقية. هي انتخابات الرئاسة في تونس قريباً، وفي السودان بعد أشهر، مناسبتان للنبش في أرشيف الانتخابات الرئاسية العربية، وما حفّ في بعضها من تعديلات دستورية لتكون على المقاس المناسب، ولتحافظ على ثبات المشهدين السياسي والحزبي على حالهما، فلا ينخرمان بإضاءة من أي نوع، قد تهيئ لشيء من التجديد والتجدّد، تزحزح موقع حزب حاكم، يستأثر رئيسه برئاسة الدولة. ليس مقدّراً حدوث شيء من هذا بعد، وليس ثمّة ما يدعو لإحداث أي تزوير ليظل قائماً، لأن لحقائق الثقافة السياسية السائدة والمستقرّة، فاعليتها العميقة في غير بلد عربي، وليس في تونس والسودان وحدهما. * كاتب فلسطيني