يمكننا القول إن المغرب شكّل استثناء بين بلدان العالم العربي، إذ تُخصص له فرنسا معرضين في وقت واحد. الأول يستضيفه متحف اللوفر، ومخصص ل «المغرب الوسيط» وتحديداً للفترة الممتدة من القرن الحادي عشر حتى القرن الخامس عشر. أما الثاني الذي يستقبله معهد العالم العربي، فينقل صورة عن «المغرب المعاصر». والمعرضان يندرجان ضمن أهم التظاهرات التي تخصص للمشهد الفني والثقافي لبلد أجنبي، وسيساهمان من خلال النفس الذي يحملانه طيلة أربعة أشهر، في إظهار الجدلية الخصبة بين المغرب الوسيط والمعاصر. فمعهد العالم العربي بباريس، يخصص حتى 25 كانون الثاني (يناير) المقبل، تظاهرة ثقافية وفنية ضخمة حول الفن المغربي المعاصر، تحت شعار «المغرب بألف لون». ويشارك في هذه التظاهرة الفنية الضخمة التي يشرف عليها الناقد الفني المغربي موليم العروسي، والمؤرخ الفني الفرنسي جان أوبير مارتان، 81 فناناً يمثلون تيارات فنية متعددة تجسد التنوع الثقافي واللغوي والإثني والديني بالمغرب، بتيمات مختلفة حول السياسة والدين والتقاليد الاجتماعية، بل هي أعمال فنية تعلن الثورة بطرق وصيغ مختلفة، يمتزج فيها النقد اللاذع بالسخرية، من دون أن تغفل البعد الفني والجمالي لفنانين يمثلون مختلف المدارس التشكيلية، منهم من عاش وعمل في المغرب، ومنهم من عاش في الخارج، ومنهم بعض الأجانب الذي جعلوا من المغرب مادتهم التعبيرية الفنية. وإلى جانب العروض التشكيلية، تخصص في المعرض مشاركات غنائية وسينمائية وتعبيرات تراثية كالتطريز على الزرابي، وتتناغم هذه التعابير لتعبر عن المغرب العام وتعدده. ويقول موليم العروسي ل «الحياة» إن «الفن المعاصر لا ينتبه بالضرورة إلى جمالية العمل بقدر ما ينتبه إلى نجاعته وقدرته على استفزاز المتلقي. فهو يتّجه إلى النقد المجتمعي والسياسي والديني والأخلاقي، ولا ينطلق من المفاهيم أو يقدم تصوراً لها بل يقدمها مادة حية أمام عيني المتلقي». وانطلاقاً من هذه الفكرة، يشير موليم إلى أن «تظاهرة المغرب المعاصر في معهد العالم العربي في باريس، هي أكبر تظاهرة للفن المغربي في الخارج على الإطلاق، ولم يسبق للفن المغربي أن قدم بهذا الحجم». ويضيف: «يتعلق الأمر بأكثر من سبعين فنانة وفناناً على مساحة ما يقارب ثلاثة آلاف متر مربع». وكان الرهان أن يفتتح المعرض مع بداية السنة الفنية والثقافية في باريس، أي منتصف تشرين الأول (أكتوبر) 2014 في زحمة المعارض التي تقدمها أكبر المتاحف الباريسية وأسواق الفن مثل فياك (FIAC)، إضافة إلى متاحف الفن المعاصر كقصر طوكيو والقصر الكبير ومركز بومبيدو، أي الرهان هو «منافسة كل هذه الفضاءات واستقطاب الجمهور والنجاح». ووفق موليم، هناك أعلام فنية فرضت نفسها داخل المغرب أو خارجه مثل الفنانين محمد الباز ومنير الفاطمي وكنزة بنجلون وفوزي لعتيريس وحسن الدرسي ويونس رحمون وغيرهم كثر. وعن قيمة هذه التظاهرة الفنية، يقول موليم: «بعد مرور أكثر من شهرين، نجحت التظاهرة في استقطاب جمهور غير متوقع. ففي شهرها الثاني تجاوز عدد الزوار 140 ألفاً، أي بمعدل 2700 زائر يومياً، وهو ما لم يسبق لأي معرض عربي للفن المعاصر أن حققه خارج البلاد العربية. ولا يزال أمامنا أكثر من شهر. ولم يكن الجمهور فقط عربياً، بل من مختلف الجنسيات والأعمار». وعن سر نجاح المعرض، يقول موليم إنه يرجع إلى مواكبة الإعلام الغربي للمعرض، ولم يسبق للصحافة الغربية أن تعاملت مع المغرب بالإيجابية التي تعاملت معه بها بفضل هذا المعرض. ويضيف: «حصل ذلك بفضل بالطريقة الحرة وغير المتكلّفة التي تعاملنا بها مع الصحافة، إذ نظمنا زيارات للصحافة قبل المعرض وعرفناهم على الفنانين الذين اخترناهم للمعرض ولاحظوا بأنفسهم كيف أن الساحة الفنية المغربية في حراك مهم قل نظيره على الساحة المتوسطية، وأن هناك حرية كبيرة في التعبير، وأن المنظمين لم يمارسوا أي رقابة على الأعمال الفنية حتى ولو تعارضت مع بعض مواقف السياسيين أو المؤسسات القائمة». هذا ما جعل الصحافة والنقاد الكبار يتفاعلون مع المعرض. وهذا ما أعطاه هذا البعد الدولي والتاريخي في آن واحد، و «سيكون لهذا المعرض الفضل في أن يسلك قطيعة في الممارسة الفنية والنقدية بالمغرب والعالم العربي»، كما يقول موليم. من أفريقيا إلى إسبانيا ويكرس المعرض المتجول «المغرب الوسيط إمبراطورية ممتدة من أفريقيا إلى إسبانيا» الذي ينتهي في 19 كانون الثاني (يناير) المقبل، ويحتضن «متحف محمد السادس» في الرباط جولته الثانية من 2 آذار (مارس) إلى الأول من حزيران (يونيو) 2015، أولوية الثقافة في المشروع الحضاري المغربي الذي يقوده العاهل المغربي الملك محمد السادس. وتعود التظاهرة الفنية المغربية الأولى التي نظمت في فرنسا، إلى عام 1985 في مدينة غرونوبل، حين كان رئيس معهد العالم العربي في باريس جاك لانغ وزيراً للثقافة في حكومة الرئيس فرنسوا ميتران. وكانت المرة الأولى التي يتم خلالها التركيز في فرنسا على العصر الذهبي للمغرب، انطلاقاً من القرن الحادي عشر الى القرن الخامس عشر. فمنذ 1900، لم نرَ سوى القليل من المعارض الكبرى حول المغرب في بلد النور، كما أن الأعمال الفنية المغربية غير ممثلة بالمقدار الكافي في المتاحف الفرنسية ومنها متحف اللوفر. لكن معهد اللوفر الآن يتيح مشاهدة ما يتعذر مشاهدته في المغرب، بدءاً من الثريا الضخمة لمسجد القرويين، أقدم وأكبر مسجد مغربي. هذه الثريا الضخمة المصنوعة من النحاس والبالغ وزنها نحو طن، والتي لم يسبق أن غادرت المغرب، منذ صنعت في القرن الثالث عشر. ويمكن مشاهدتها في متحف اللوفر ومعاينة براعة ديكورها المخطوط على شكل هندسي، كما يمكن اكتشاف 499 تحفة مبهرة، بخاصة المنابر التي يصل علوها إلى ثلاثة أمتار والأقدم في العالم الإسلامي. وهي منابر تتميز بزخارف بديعة، تعكس القوة والغنى المتنوع للأسر الثلاث التي تعاقبت على حكم المغرب على مدى أربعة قرون، من مراكش إلى قرطبة.