في حمّى جدالات الفلسطينيين حول الوحدة الوطنية وإنهاء حال الانقسام الرّاهنة، ثمة ما يفتح باب التوجّس ويطلق مخاوف كثيرة: هل تطوي المصالحة الوطنيّة ببعدها الفصائلي أزمات حادة عصفت بالمجتمع نفسه وتركت آثاراً لا تزال تتفاعل في صفوفه؟ كثر من المراقبين، ومن بينهم بالطبع قيادات من الصفوف الأولى في الفصائل المتنازعة يحبّذون أن تقوم المصالحة المنشودة على مبدأ «عفا الله عمّا سلف»، أي طي صفحة الماضي، رغبة في «عدم إثارة» موضوعات خلافية يصعب تحقيق حلول جدّية وجذرية لها. هذه الفكرة تبدو لنا اليوم في صلب الحوارات المستمرّة بين الفصائل في العاصمة المصرية، ومن يتابع تطوّرات ومسار تلك الحوارات يلحظ أنها تنصبّ على مناقشة عناوين محدّدة ذات صلة مباشرة بالخلافات حول ما يخصّ «الشراكة» الفصائلية، كموضوع الانتخابات والأجهزة الأمنية وما يشابهها، أي أنها لا تتطرّق إلا بكلام عام، غامض يصعب تفسيره عن المآزق الكبرى وذات الطبيعة الدّامية التي وقعت خلال السنتين الماضيتين، وتسبّبت في خلق شروخ اجتماعية لا تزال جراحها نديّة بالدّم، ومفتوحة على مجموعة لا تحصى من حوادث القتل المجّاني الذي راح ضحيته آباء وأبناء، لهم بالطبع عائلاتهم التي اختارت – في الغالب – عدم إقامة بيوت عزاء لهم، وهي العادة التي يعرف الفلسطينيون والعرب عموماً معناها الرّمزي الذي يشير إلى نيّة الأخذ بالثأر، خصوصاً في تلك الحوادث المحدّدة والتي تمكّن فيها أهل القتيل من معرفة قاتله. كلُ الحلول التي تتناولها جدالات المصالحة تمرّ على هذه القضايا من منظور معالجات مالية تقوم على «دفع الديّة» للعائلات، مع قرار ما يصدر باعتبار من سقطوا في الاقتتال «شهداء» تتم إضافتهم لقوائم الشّهداء، أي منح ذكراهم بعض الدّعم المعنوي الذي تأمل القيادات على اختلافها بأن يبدّد آثار تلك الجرائم من نفوس أهلهم وذويهم. في السياق نفسه، بقليل من التدقيق، يلحظ المراقب أن واقعاً جديداً قد نشأ في قطاع غزة في أعقاب انقلاب حماس سمته الأبرز فك وإعادة تركيب المؤسّسات الوظيفية عموماً وليس الأمنيّة وحسب، بل أن الفك والتركيب قد طال في طريقه المؤسّسات الأهلية فألغى بعضها واستبدل قيادات وأطر بعضها الآخر بموالين للحكومة المقالة ولحركة حماس. نتذكّر كل ذلك ولا ننسى مجموعة «القوانين» والإجراءات «الطارئة» التي أصدرتها الحكومة المقالة في مجالات التعليم والاقتصاد والقضاء وغيرها من المجالات والتي قلبت الحياة اليومية في القطاع، فألغت منها صحفاً ومحطات إذاعية من دون سند قانوني أو شرعية مهنيّة، كما ترتّب عليها إنهاء وظائف كثر من العاملين واستبدالهم بمن هم موالون لها، وهي حالات لا يجوز القفز عنها والانطلاق من التسليم براهنها الذي يتزامن مع لحظة المصالحة تحت أية دعوى، لأن المصالحة وإن كانت في عنوانها الأساس بين الفصائل، إلا أنها ينبغي أن تلحظ كل هذه التداعيات الشعبية كي تكون كاملة وحقيقية. من البديهي والمنطقي أن تكون المصالحة عودة إلى الحياة الطبيعية، وهنا بالذّات تبرز إلى مقدّمة الاهتمامات قضيّة المشردين الذين دمّرت بيوتهم خلال العدوان الشامل الأخير على قطاع غزة، والذين يتوجب أن تكون المصالحة سياسياً في خدمة قضية إعادة إعمار بيوتهم، ونعني بذلك أن تنسجم بنود الاتفاق القادم في حال التوصّل إليه مع كل ما من شأنه فك الحصار الخانق عن القطاع، وتسهيل البدء فعلياً في عملية إعادة الإعمار المنشودة. نقول ذلك من دون أن ننسى بالطبع القضية الأكثر إثارة للحزن والأسف، قضية الاعتقال السياسي، وأهميّة عدم الاكتفاء بالإفراج عن المعتقلين هنا وهناك، ولكن أساسا إلغاء كل السياسات التي يمكن أن تسمح بعودة الاعتقال. معنى ذلك بالتحديد إرساء سلطة القضاء وترسيخها. ونبذ كل أشكال التعدّي عليها وصولاً إلى مجتمع آمن ومستقر. أعتقد أن مفتاح الوصول إلى كل تلك الطموحات هو في إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وبلديّة حرّة ونزيهة يلتزم الجميع احترام نتائجها... انتخابات يمكن أن تفضي إلى تشكيل حكومة جديدة جامعة لشطري الوطن الفلسطيني من دون انقسام أو تفريق. نتحدث عن الانتخابات فنختصر حديثاً آخر بالضرورة عن التعدّدية وحريّة الرأي والانتماء بالنسبة إلى الأحزاب والنقابات، كما للأفراد أيضاً. كل ذلك هو المصالحة، وما عداها ليس أكثر من ترميم لبنيان الأزمة. ترميم يطيل أمدها ويكرّس الانقسام. * كاتب فلسطيني