الدكتور نعيمان عثمان ابن المدينةالمنورة، منها اشتق الطيبة والتسامح ومن خلالها استنَّ فنون الهجرة إلى كل البقاع... هو يسأل كثيراً... ولأنه يسأل تصبح الأجوبة حواليه حجرة عثرة في طريقه... وجد في الأدب الإنكليزي متنفساً لثقافات عدة اختزل من خلالها تجارب تحصى... عندما يطرح رأياً أو ينشر كتاباً لا تتخيل أنه ذلك الرجل الهادئ أمامك... ابتسامته تشفع لكل غضبه أن يهدأ... هو مثقف حتى الثمالة لا يهمه إلا النجاح مع نفسه، يقول في حواره مع «الحياة»: «طالما اعتقدت أني بمنأى عن الصراعات وتخيلت نفسي على بعد كافٍ منها، وحتى عند الاقتراب من بعضها أفضل الانسحاب المدروس أو، عند المقدرة، محاولة درسها». ويضيف مهاجماً الصحافة المحلية: «تطغى على الصحافة المحلية مقالات الرأي، وإن خلا الكثير منها من أي رأي، وهو أمر متوقع في فترة متغيرات كثيرة» ... فإلى تفاصيل الحوار. صوتك هادئ جداً... لكن طرحك يبشر بتسونامي جديدة... لماذا؟ - «بشارة التسونامي»! علّ في هذه العبارة التي تبدو ذاتية التناقض ما يشي بشيء من الأمل على رغم النذر بالكوارث. قدرك أنك دائماً تعيش في بؤرة الصراع دائماً... ماذا منحك ذلك؟ - طالما اعتقدت أني بمنأى عن الصراعات وتخيلت نفسي على بعد كافٍ منها، وحتى عند الاقتراب من بعضها أفضل الانسحاب المدروس أو، عند المقدرة، محاولة درسها. هل هناك مترجم سعودي... وماذا قدّم للترجمة من العربية وإليها من اللغات الأخرى؟ - من دون شك لا بد هناك مترجمون، لكن هناك عقبات جمة في هذا الصدد بعضها مرتبط بالمشكلات التي تعتري الكتب عموماً من رقابة وتوزيع، ويضاف إليها عامل أساسي هو الجهات الرسمية، فهي آخر من يجب أن توكل إليه مهمة الترجمة، خصوصاً في مجال الفكر والتاريخ والأدب. فما يمكن أن تقوم به هذه الجهات هو، سلبياً، ألا تمنع دخول الكتب والمجلات الأدبية والفكرية، وإيجابياً، أن توجد آلية لتشجيع الترجمة يتولاها مباشرة أناس لهم باع ليس فقط في الترجمة نفسها، ولكن أيضاً في إدارة هذا المشروع ككل. جائزة الملك عبدالله للترجمة.. ماذا تضيف..؟ - عندما تشرف جهات رسمية على الترجمة يجب ألا يوكل إليها أي جزء من عملية الترجمة: وتكون فقط هي الجهة المانحة فقط وفق معايير يضعها القائمون على هذه المهمة. بؤس الصحافة لماذا آمنت أن بؤس الصحافة يمنح الصحفيين المجد..؟ وحتى متى البؤس لها والمجد لغيرها..؟ - العلاقة ليست سببية، لكن وضع الصحافة المزري يسمح للقلّة سواء في السلطة أو من الصحفيين أن يتعاضدوا في إبقائه على هذه الحالة. كتابك عن الصحافة والصحفيين.. هل حرك بعض المياه في الخليج الإعلامي؟ - آمل ذلك، إذ إن هذا هو الهدف، رغم معرفتي بأن كتابا واحدا لا يمكنه إلا أن يفتح الباب للنقاش الجاد والمباشر دون مراوغة في هذا المجال الحيوي. هل تشعر أن الصحافي الأجنبي يتسلقنا ليصل..؟ - التمييز الحاد صعب، ولا يمكن لأي صحافي أيا كان أن يتسلق إلا إذا توفرت له السبل. المال السياسي للإعلامين.. هل من بنوك له..؟ - هذا موضوع شائك أحاول في كتابي تناوله رغم محاذيره غربا وشرقا، مع اختلاف واضح تبينه المفارقة بين مثال رئيس دولة عربية يوزع، بطريقة شديدة المباشرة، ظروفا محشوة بآلاف الدولارات في رحلة على طائرة، وما تدفعه مثلا الحكومة الأمريكية لشركات لاختلاق قصص وغرسها في صحف عراقية. انتهت فترة دفع الأموال مباشرة للصحافيين لكن لم تتوقف المنح والهدايا و«الجوائز» والحظوة. هناك بالطبع مسألة ملكية وسائل الإعلام وطبيعة هذه الملكية والتسهيلات والميزات التي توفرها هذه الملكية. هل تشعر أن الصحافة لعبة الكبار فقط..؟ - لا ضرر إن علمنا من هم وراء الصحافة، فمثلها مثل أي سلطة ستكون عندها موضع نقاش وتساؤل ودون إلقاء التهم جزافا. المال سعودي والصحافة أجنبية.. من الخاسر الأكبر؟ - لا جنسية للأموال أو حتى للشركات في عصر العولمة، لكن هذا لا يمنع الساسة والإعلاميين الجدد، أي مالكي المؤسسات الصحفية الكبرى وليس الصحافة التقليدية، إلى تسخير الإعلام لأهدافهم. لماذا نجيد إطلاق التهم بالخيانة والولاء للغرب والعمالة والقومية لكل صوت حر في صحافتنا..؟ - لتعذّر وجود مجالات عامة في المجتمع، أحزابا ونقابات وجمعيات، تتكدس هذه الاتهامات التي تختزل الآراء إلى مواقف. وأنت تقرأ صحافتنا .. أين تسكن الموضوعية والصدقية فيها..؟ - تطغى على الصحافة المحلية مقالات الرأي، وإن خلا الكثير منها من أي رأي، وهو أمر متوقع في فترة متغيرات كثيرة وكذلك، وهذا هو الأهم، لعدم توفر الأخبار عدا الحوادث والأحداث والمناسبات. لغة الصحافة هل اختلاف اللغة يمنح الجريدة إبداعا أكثر..؟ - إلى حد كبير. فمقارنة بسيطة بين الصحافة المحلية في الإمارات مثلا والصحيفة التي تصدر بالإنكليزية بميزات عالية The National توضح ذلك. كذلك الوضع في مصر بالنسبة للأسبوعية «الأهرام ويكلي» مقارنة بالصحف الرسمية. لكن في لبنان ليست «ديلي ستار» بأفضل من صحف بالعربية. هنا يمكن الإشارة إلى تجربة فريدة تمثلها ترجمة اللوموند ديبلوماتيك الفرنسية إلى العربية التي تنشرها شهريا صحف عربية مختلفة. عند أول إصدار لنسخة الشهر الماضي للوموند من قبل جريدة الأخبار اللبنانية أبدى رئيس تحرير النسخة العربية سمير عطية بعض النقد لتعامل بعض الصحف العربية المتعاونة. تتوفر معظم مواد النسخة العربية على موقع عطية الإلكتروني «مفهوم»، لكن ترافق النسخة الورقية مع جريدة الرياض يبرز الاختلاف الشاسع بين الاثنين، فاللوموند ديبلوماتيك تتميز بطريقتها الاستقصائية التي تتناول مواضيع من مختلف مناطق العالم وبتوجه يساري. لهذا التناقض يمكن للمرء تخيل قيام صحيفة «شقيقة» مثل الوطن بدعوى عدم تكافؤ بين الرياض واللومند وعندها سيصدر حكم القاضي دون تردد بالطلاق البائن. تبنّي الوطن هذه القضية له ما يبرره فلها صلة نسب باللومند حيث تظهر على صفحاتها من حين لآخر مقالات لألان غريش، المحرر في تلك الصحيفة بعدما كان يترأس تحريرها لأمد. تدخلات السياسيين في صحافتنا.. نعمة أم نقمة عليها؟ - يتدخل الساسة في كل شؤون الحياة وليس بالضرورة إيجابياً، ولديهم إحساس بأن الصحافة، على رغم الانفتاح الإعلامي، هي من ضمن أولوياتهم، فهي تكاد تكون المجال الوحيد الذي يكون لهم فيه «اتصال»، ولو توجيهي، مع الناس، إذ السبل الأخرى الديموقراطية متعذرة. ما الفرق بين صحافة الخليج وصحافة لبنان ومصر؟ - أحاول تفصيل هذا في كتابي «بؤس الصحافة ومجد الصحفيين». من المهم مراقبة تحولات الصحافة في مصر، إذ إنها تمر حالياً بمرحلة قد تتمخض عنها تحولات جذرية. أما في لبنان فالمواقع تشبه إلى حد كبير الوضع السياسي، وما يميزها عن سواها هو الرصيد الكبير من الأخبار، إضافة إلى نوعية مميزة في المجال الفكري والفني والأدبي. أما بالنسبة للخليج، فالنمطية طاغية إلا أن هناك محاولات فردية مميزة. أما محلياً، فالملاحظ كثرة البيانات والتصريحات والعرائض في شكل قصائد وإعلانات النعي والتعزية التي هي أقرب إلى أضرحة. الجوائز الإبداعية في العالم العربي، كيف تقرأ المنهج والهدف فيها؟ - هناك هوس بالجوائز عموماً لدرجة أنه يمكن القول ببروز صناعة الجوائز، ويمكن الإشارة هنا إلى قول لأحدهم بأن لكل «مبدع» ولكل «اختراع» أو «إبداع» أو «إنجاز» ستخصص جائزة. ما قد يكون للجوائز من قيمة في التشجيع يمكن أن يتحول ضرراً عند المبالغة فيها، بخاصة في مجتمعات تسمي نفسها محافظة، ولا يزال يؤمن كثير من الناس فيها بأن المخترعات يمكن إبداعها من دون معرفة أساسية. علينا تذكر أن مفهوم «الإبداع» الذي يعتقد البعض أنه مرتبط أبدياً بالنجاح الذي حققه الغرب هو شيء مستجد هناك أيضاً. الفن والشك والريبة لماذا الفن بكل أشكاله يتوجس منه الشك والريبة؟ - في المجتمعات المحافظة عموماً تعلى قيم الوقار والصرامة في الظاهر ويصعب تقبل المساءلات والابتعاد ولو قليلاً عن الخطوط المحسوبة لخشيتها من المساس بما يعتبر من الثوابت أو التعرض للسلطات بأنواعها. لكن وصم المجتمع بأنه محافظ هو وضعه في كبسولة، إذ إنه حتى داخل ما يسمى بالمجتمع المحافظ هناك نزعات وتيارات تتفاوت وتتمحور وربما تتفاعل. الفن والثقافة كيف لهما أن يستقلا عن الحكومة؟ - في «استراتيجية الثقافة» التي رسمتها الهيئة العليا للثقافة قلنا بضرورة وجود مراكز ثقافية عبر المملكة تضم الفنون والثقافة والفكر. هذه المراكز تكون مفتوحة للجميع ومن ضمن أعضائها تتكون هيئات لإدارتها. وكان هناك توجه بأن تكون على مسافة من الحكومة سواء الوزارة أو الإمارة المحلية. بل إن الطموح كان بأن تقوم الجهة الحكومية المشرفة بتوفير الإمكانات وتقديم التسهيلات، لكن كل مركز يرسم خططه ويقدم مشاريعه التي تجد الدعم الكامل أو الجزئي. ألا تشعر أن «الحرام» سحب البساط من «الحلال» في مجتمعنا؟ - في مجالات كثيرة في المجتمع تجري مداولات بين المقبول وغير المقبول، وهذه نفسها متغيرة بحسب المناطق وبحسب الأوقات. وأنت تتجول في عقول أفراد مجتمعنا أي شيء تراه يسكنها أكثر؟ - هوس بالأرقام وبالغرائبية. قد لا يختلف كثيراً الإيمان ب «الاختراعات» العلمية ك «معجزات» من الإيمان السائد بالشعوذة والسحر. أما عن الأرقام فما عليك إلا تتبع قوائم الأثرياء وتصنيف الجامعات إلى معدلات الذكاء أو نتائج امتحانات «القدرات»! كذلك هناك تناقض حاد بين وثوقية تامة في مبدأ الجدارة الفردية الذي تدعمه الامتحانات بأنواعها وبين الإصرار على دعم الانتماءات الفئوية بناء على «أصول» أو على مناطق. الرجل والمرأة والمصير الفصل بين الرجل والمرأة في مجتمعنا، هل تسبب في فقدان التواصل بين الأطراف؟ - ما يحبط الكثير هو التخلي عن مناقشة الأمور المصيرية وإيجاد حلول مناسبة لها على مدى طويل، وليس المفروض أو المتوقع أن ترضي هذه الحلول الجميع. تكرر الحديث عن ضرورة تأهيل المرأة وتهيئتها حتى تستطيع الانخراط الكامل في المجتمع، لكننا نمعن في فصلها بإنشاء مؤسسات مستقلة لها ستجعل عملية الاندماج التي هي لا محال آتية أكثر صعوبة. بكلمات أخرى، سنلقي بمشكلة اليوم، مع زيادة في التعقيد والاستقطاب، على الأجيال القادمة لتجد لها حلاً في وقت قد لا تجزي فيه عوائد النفط في دعم هذا الفصل. لماذا الحوار والنقد يكون بين الأضداد ولا يكون هناك حوار بين أهل الطيف الواحد؟ - قد تكون هذه مرحلة طبيعية بالنسبة لمجتمع هو في طور التكوين وفي مرحلة متغيرات جذرية. هنا الاصطفاف يكون شأناً طبيعياً لكنه لن ينتقل إلى مرحلة تتشعب فيها الأهواء والانتماءات إلا بانفراجات كبيرة في شتى شؤون الحياة الفكرية. بكلمات أخرى، يتم هذا عندما لا نضطر لأن تكون لدينا جهة رسمية تشرف على الحوار، أي عندما يكون النقاش والمساءلة بل المحادثة في صيغتها المتفتحة هي الأساليب في كل مناحي الحياة. اقتحام السعوديات لعالم الرواية... هل ترى فيه تميزاً أم أنها مجرد فورة؟ وهل ترى فيه إبداعاً أم مجرد تنفيس وتعرية لواقعنا ليس إلا...؟ - لا ضرر حتى وإن كانت فورة، فالنقلة النوعية كانت في كسر حواجز ذهنية أكثر منها إبداعاً أدبياً في كل حال. ولعل لدارسي الآداب الغربية، مثلاً، معرفة كم كان دور التعدي والتمادي الخلاق جزءاً من الإبداع. في عصرنا الحاضر، كثيراً ما يندّد البعض بالمبالغة في الكتابة الجنسية عند بعض أهم الروائيين الأميركيين: جون أبدايك وفيليب روث. في مقالة لي عن رواية «شقة الحرية» نشرت عند صدورها في هذه الصحيفة، كتبت: «الجنس هنا ليست فيه المصادفة التي تجمع فردين في علاقة فريدة مثل ما يحدث في روايات ميلان كونديرا مثلاً. هنا العلاقة تنشأ في العادة، على طريقة مرابع الليل، بقيام قطيع من الذئاب بالسطو على كافتيريا كلية الآداب حيث الحملان تتقافز. وبالتالي ليس هناك نموّ واستنباط لعلاقة – إنسانية نعم – لكنها فريدة. هنا العلاقة أمر مشاع والحديث عنها أمر مشاع وكأنها في النهاية وسيلة لتكوين علاقة أفضل وأقوى بين الرجال عبر الحديث عن مغامرات فانتازية مع نسوة. «بكلمات أخرى، العلاقات هي «غزوات». وأضيف مذكراً بأننا لسنا الأوائل في مجابهة هذه التحديات: «من المفيد هنا التذكير بأن الأدب الإباحي pornography أو حتى الفاحش obscenity ارتبطا بعصر الأنوار». لماذا المبدعة ما إن تبرز حتى يبدأ الكل في قذفها بالحجارة؟ - هذا جزء من ضريبة الاستقلال في الهوية والشخصية، ولو كانت لا تزال لصيقة بلحمتها لما أمكن تصويبها، أو بحسب الطريقة التقليدية، هوجم ولي أمرها ولم تعط أي اعتبار. جامعة الملك سعود جامعة الملك سعود... هل أنصفتك أم جافتك؟ - ما لم تكن الجامعة مستقلة وبالتالي يشعر الأكاديميون والطلاب بأنهم في حرية لمناقشة جريئة وتناول قضايا شائكة في ظروف ملائمة من الإدارة والإشراف. من المحزن أن الجامعة في الماضي كما في الحاضر ليس لأكاديمييها المشاركة الفعالة في رسم خططها والدخول في مراجعات مستمرة لكل جوانب أعمالها. هي مؤسسة حكومية تقليدية وإن أسبغت عليها أخيراً مسحة من الانتصار للنزعة التجارية وللتوجهات المنفعية. قد تكون هنا ضرورة لمباركة التحرك بعد شلل السنين الماضية، لكن قد يكون في الاندفاع المادي والبهرجة عواقب من نوع مختلف. ما قد يتبقى من هذه الطفرة هو الإنشاءات العملاقة، ما قد يسمح في فترة لاحقة للتفرغ للشؤون الأكاديمية والتجربة الجامعية الحقة. هل أنت مع استقلالية الجامعات وتفردها بالقرار والرؤية؟ - المعادلة صعبة بين استقلالية في القرار الإداري والأكاديمي والتوجه الحديث الذي يتسم بليبرالية ذرائعية: تمويل من جهات أغلبها تجاري أو فردي في مجالات القصد الوحيد منها هو النمو الاقتصادي دون أي اعتبار للأهداف التقليدية للجامعة لتكوين مواطنين متنورين وللعلم في حد ذاته. في هذا نحن نسير في التوجه السائد حالياً في الغرب، خصوصاً أميركا لكنها قد تكون مرحلة موقتة هناك، بينما لدينا الاعتقاد بأن خلاصنا من مشكلاتنا التعليمية الراسخة هو الهروب إلى الأمام نحو تجارب مختلفة دون دراسة متأنية. في مقالة حديثة تناقش مديرة جامعة هارفارد درو فوست دور الجامعة المتناقض: أن تكون عملية وتقوم بخدمة المجتمع بتلبية مطالبه الآنية، وأن تكون في الوقت نفسه متسامية تتطلع إلى أن تقدم للمجتمع وللفرد عمقاً وسعة في الأفق تتجاوز النظرة الحالية التي تتسم بقصر النظر. فالبشر في حاجة إلى الفهم والتأمل وتكوين نظرة للحياة، مثلما هم في حاجة إلى وظائف. يجب على الجامعة احتضان المنظور الذي يذهب إلى ما هو أبعد من الحاضر بالدرجة ذاتها التي توفر بها محاضن للتكنولوجيا والبحوث العلمية. وفي تأكيد على الجانب القيمي، تقول بأن التعليم الجامعي أسمى من المصالح والمنافع التي يمكن قياسها. وعلى الجامعة أن توفر ليس التعليم فحسب ولكن أيضاً الشك، وهي مسألة قد تتسبب في بعض الإزعاج. على الجامعة أن تقدم «قيماً»، وعليها في الوقت نفسه مناقشة وإبداء الشكوك في القيم. على الجامعة أن تسأل الأسئلة العميقة والمزعجة الضرورية لأي مجتمع. لكن تبنّي نموذج السوق بالنسبة للجامعة، قد يجهض كل هذه المسؤوليات الملقاة عليها. مناهجنا صمت وسلبية هل صحيح أن مناهجنا الدراسية وتربيتنا تشجعان على السلبية والصمت على ما يحدث لنا؟ - الكل ينتقد المناهج، لكن البديل الوحيد الذي يقدم هو إحلال كامل لما يصمونه بالتلقين بالشيء المنقذ (الإبداع) ضمن هجمة للعلوم التي «تدرب» أكثر مما «تعلم» الطالب لوظيفة المستقبل. لكن الصمت هو سيد الواقع التعليمي، وإلا فكيف يمكن لمقابلة مثل مقابلة مدير جامعة الملك سعود حديثاً على صفحات هذه الصحيفة لا تحظى بنقاش النقاط الجوهرية والجدلية التي أثارها من الأكاديميين والمعنيين بالتعليم. لكن قد يكون الحديث أكثر ضرراً، مثل إغداق المديح غير المبرر على كتاب الدكتور أحمد العيسى الحديث عن التعليم، فبدل أخذه مأخذ الجد ومناقشته، أهمل ولو عن طريق الإطراء بعبارات مثل قول الإداري - الأكاديمي السابق غازي القصيبي بأنه الكتاب الأفضل في العقدين الماضيين، ولنا أن نحزر السبب وعلى أي نوع من الكتب وبأية لغة وفي أي بلد ينطبق هذا التعميم المشل. هل خطط الإصلاح والتطوير للتعليم تصطدم بثقافات ومؤسسات تقاوم التغيير في كل شؤون الحياة؟ - قضايا التعليم قضايا جوهرية، فلا غرابة في أن تكون مجال صراع، خصوصاًً في مجتمع في طور تغيير وتشكيل تستقطبه تيارات مختلفة المشارب والتوجهات والنظرات لطبيعة المجتمع. كذلك لا يمكن إهمال جانب السلطات المتضاربة، فحيث لا تتوافر مجالات عامة للسياسة، سيكون التعليم هو الموضوع المثالي. هناك أيضاً نظرة لدى البعض بأنهم سيفقدون دوراً مهماً في السلطة إن تسربت إلى التعليم نزعات جديدة ليسوا على مقدرة على التأقلم معها. كتابك «تربية من دون تعليم» هل هو شهادة وفاة لتعليمنا؟ - هو محاولة لمناقشة قضايا بعضها مرفوض من دون مساءلة، وبعضها الآخر محبّب من دون معرفة كافية. فترة الانتقال هذه من الخطورة بحيث يتوجب فيها التمحيص والمراجعة من دون اتخاذ مواقف مسبقة ومن دون الاعتماد الكلي على تجارب قد تكون ناجحة في الفترة الحالية في أماكن أخرى من العالم. القياس والتقويم.. ضحك لك رؤية حادة حول فكرة القياس والتقويم، ما هي منطلقاتك فيها؟ - تأكيداً لإجابتي السابقة، مثال «اختبار قياس» قد يختصر وضعنا المتأزم. لدينا مشكلة في قبول الطلاب في الجامعات تتلخص في وجود أعداد كبيرة من خريجي الثانوية جرت عمليات تضخم وعدم دقة على نتائجهم الدراسية وانعدام إمكانات فرزهم وتعليمهم تعليماً مرضياً. الحل لم يكن بدراسة شاملة ومتكاملة، بل بالقفز إلى منقذ في امتحان قبول الجامعات الأميركية المعروف ب SAT. في الوقت الذي كانت تعصف بهذا الامتحان آخر مراجعة جذرية ألغت منه الجزء المتعلق ب «القياس»، وأعطت أهمية كبرى للتحصيل وأضافت متطلّب كتابة مقالة. في مراجعة أسبق ألغيت فكرة «قدرات»، إذ كان الاعتراض على الزعم بوجود شيء متأصّل في الإنسان لا يمكن تطويره عبر التعليم، وبالتالي اقتصر على هذه الحروف الأولى بدل المسمى الكامل، الذي دل فيه الحرف الأوسط في السابق على Aptitude «مقدرة كامنة»، وأضحى هذا الحرف يدل على Assessment أي تقدير أو امتحان. لكن مركز قياس لا يزال يصر على أن هناك «مقدرات» وعلى إمكان قياسها، وكذلك إمكان التنبؤ بالمقدرة على النجاح في الدراسة الجامعية. هل تشعر بأن المركز الوطني للقياس يتفاعل مع الرأي والرأي الآخر؟ - لم يعط المركز أي اعتبار لأي من هذه الأسئلة الأساسية، بل واصل تكرار مزاعمه المنقولة، وأتى هذا الإمعان في عدم الالتفات للنقد الجذري في لقاء قبل أسابيع مع مدير المركز على قناة الإخبارية بمشاركة أستاذ تربية من جامعة الملك سعود كان من المفترض أن يمثّل ما يسمى «الرأي الآخر». لماذا المناصب لا تعرف طريقاً إليك؟ - ليس زهداً، لكن في الملاحظة التالية قد تكمن الإجابة: عندما تفوز بأعلى جائزة لا تطر فرحاً بل انظر من نالها قبلك، فستعرف مدى قيمتها وتدرك أن كثيراً من «المناصب» والجوائز هي أقرب إلى «المكافآت» التي تكافئ «انجازاً» لم تقم به.