انجلى غبار المعركة وعاد فاروق حسني مجدداً الى وزارته التي أمضى فيها ردحاً غير يسير من عمره. عاد ليعلن من القاهرة حرباً ثقافية لا هوادة فيها ضد اسرائيل، وعساه يفعل. فالوزير الفنان لم يجد بداً من العودة بعد ان تحالفت ضدَّه دول ومنظمات وحالت دون وصوله الى رئاسة اليونيسكو التي فازت بها البلغارية ايرينا بوكوفا. كثيرون منا ربما كانوا في حلّ من أي موقف لو دارت المعركة على رئاسة اليونيسكو حول معايير مهنية وكفاءات شخصية، ففي مثل تلك الحالات لا فضل لعربي على أعجمي إلاَ... بالمؤهلات العلمية والفكرية والثقافية، لكن حين تتمحور المسألة من أساسها حول بعض المواقف السياسية أو الثقافية للوزير فاروق حسني وصولاً لاتهامه بمعاداة السامية، ويغدو الموقف من اسرائيل هو المعيار لتبؤو أي منصب دولي، فإن الامر يأخذ طابعاً آخر، ويصير الساكت عن الحق شيطاناً أخرس. لا أميل الى تعليق كل حدث على شماعَة المؤامرة، لكن كثيراً من الوقائع يدفع المرء الى قطع الشك باليقين، إذ ليس طبيعياً ولا منطقياً ولا مجرَد مصادفات عابرة ما يتعرَض له العرب في «أروقة» العالم، ولا هي بريئة تلك الصورة النمطية التي تعمّم لهم في رياح الأرض الأربع. نعم، أصل الصورة لا يسر إلا الأعداء، لكن ليس كل ما يلصق بنا حقاً أو صواباً. ثمة تشويه متعمّد ومنهجي لكل ما هو عربي، ومن يظن في الأمر مبالغة فليشاهد الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية أو فليقرأ بعض ما تكتبه مئات الأقلام على صفحات الانترنت أو في الصحافة العالمية. مقابل كل عمل واحد ينصف العرب ويقدمهم كبشر شأنهم شأن بقية بني جنسهم ثمة مئات بل آلاف الاعمال التي تصوّرهم وحوشاً وأشراراً وكائنات متعطشة للقتل وسفك الدماء، فيما تتغاضى كل هذه الوسائل عن الإرهاب المنظّم والجرائم الدموية التي ترتكبها اسرائيل على مرأى العالم كله. أمس كان بيننا فتى لبناني يعيش ويدرس في أفريقيا جاء لقضاء اجازته الصيفية في ربوع وطنه المعلّق على خشبة الانتظار فأنفق جزءاً كبيراً من صيفيته في جمع الصور التي يظهر فيها نجوم عالميون على مسارح لبنانية، أو تبرز فيها مناطق وشوارع وعمارات حديثة، ولما سألناه عن السبب قال انه يريد تقديم الأدلة والبراهين لرفاقه الأجانب والأفارقة في مدرسته على أن وطنه لبنان بلد طبيعي فيه حداثة وعمران وناس أسوياء وليس غابة أو صحراء تعجُّ بالارهابيين كما تصوره أفلام الكرتون التي يتم بثها عبر التلفزة هناك أو ألعاب الفيديو والانترنت. حال الفتى حالنا جميعاً، كأن «الواجب» يملي علينا البحث دائماً عن براءات ذمة وشهادات حسن سلوك، لكي نثبت للآخرين أهليتنا الآدمية، وما يزيد الطين بلّة أن المطلوب توقيع اسرائيل على تلك الشهادات. كأن دولة الاحتلال والارهاب باتت مرجعاً في حقوق الانسان، وكأننا لسنا جزءاً من الانسانية ولم نساهم في ارثها الحضاري والثقافي. فما من أمّة تعرضّت لطمس اسهاماتها وإنجازاتها التاريخية مثلما يتعرض له العرب بفعل الدعاية الصهيونية (ومن يؤازرها) المتغلغلة في كل شيء، في السياسة والثقافة والفن والإعلام والاعلان وكل ما يمت بصلة الى وسائل التواصل والاتصال. الحال لا يسرّ أحداً، وخسارة فاروق حسني كذلك، لا دفاعاً عن الشخص كفرد بل كممثلٍ لشعبٍ بات العداء له هو المعاداة الحقيقية للسامية. ثمة هولوكوست ثقافية وأخلاقية ترتكب بحقنا كل يوم، فهل يستطيع العرب مناهضة هذه العداوة بما يلزم من عدّة ورباط الفكر والوعي، ومن اصلاح ذات البين اولاً وقبل أيّ شيءٍ آخر... وهل يشن معاليه حقاً حرباً ثقافية باتت ضرورية وملحّة ضد اسرائيل ومن يقف وراءها وأمامها والى جانبها؟!