أدت التدخلات الاقليمية وتشبث بعض أطراف المعارضة بمطالبها التعجيزية، الى فشل زعيم الغالبية النيابية اللبنانية، النائب سعد الحريري، في تشكيل حكومته الأولى، ما اضطره للاعتذار عن عدم متابعة مهمته.وكانت الموالاة الممثلة ب «قوى 14 آذار» أعلنت قبل الانتخابات النيابية أنها لن تشارك في حكومة ائتلافية اذا خسرت الانتخابات، في حين أعلنت المعارضة الممثلة ب «قوى 8 آذار» انها ستعمل في حال فوزها على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وانها ستشكل حكومة منها اذا بقيت الموالاة على موقفها الرافض. كما أعلن الامين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله أنه سيترك الموالاة تحكم وحدها، طوال ولاية مجلس النواب الحالي، إذا فازت في الانتخابات، وأنه سيكتفي بمراقبة أعمالها. لكنه عاد عن موقفه بعد انتصار الموالاة الذي شكل ارباكاً كبيراً له، حيث كان واثقاً من فوز المعارضة في الانتخابات، فعاد ليعلن باسم المعارضة وجوب تشكيل حكومة وحدة وطنية وأن تكون مشاركة المعارضة فيها فاعلة. وفور اعلان فوز «قوى 14 آذار» في الانتخابات النيابية، مد النائب سعد الحريري، بصفته زعيماً للغالبية النيابية المتجددة، يده الى المعارضة وأعلن استعداده للتعاون معها من أجل انقاذ لبنان. وذهب أكثر في ايجابياته ومرونته، بالاعلان، لدى تكليفه تشكيل الحكومة الجديدة، عن خياره الوحيد لشكل الحكومة وهي أن تكون حكومة وحدة وطنية، وأن برنامجها لن يتطرق الى سلاح «حزب الله» الذي سيبقى مطروحاً على طاولة الحوار توصلاً الى اتفاق على استراتيجية دفاعية تتكيف مع أوضاع المنطقة لغاية التوصل الى سلام شامل وعادل في المنطقة. اعتقد الرئيس المكلف سعد الحريري، أن تأليف الحكومة لن يكون مستعصياً، خصوصاً، بعد عودة التواصل السعودي - السوري في محاولة من الرياض لاستيعاب دمشق واعادتها الى الحظيرة العربية وإبعادها من الحليف الايراني، والتفاهم بين البلدين على تسهيل مهمته، وبداية الانفتاح الأميركي على دمشق. ولم تكن حساباته في محلها، إذ عانى شهراً ونصف شهر من المفاوضات المضنية مع المعارضة بقيادة «حزب الله» قبل التوافق على صيغة مقبولة للحكومة لا تتمتع فيها الموالاة بالأكثرية التقريرية والمعارضة بالثلث المعطل وأن تكون الحصة الوازنة لرئيس الجمهورية، وشهراً آخر من المناكفات والمشاحنات مع رئيس «تكتل الاصلاح والتغيير» النائب ميشال عون حول حصته من الحقائب الوزارية واسماء الوزراء المقترحة لها. الأمر الذي شكل ابتزازاً من المعارضة، من خلال توزيع الأدوار في ما بينها، للرئيس المكلف من أجل دفعه الى تقديم مزيد من التنازلات، في استغلال مكشوف لالتزامه تشكيل حكومة وحدة وطنية. وكان على الرئيس المكلف عدم تقديم هذا الالتزام والتقيد به وإبقاء المجال مفتوحاً أمامه لخيارات أخرى، والاتفاق مع المعارضة على سلة متكاملة تشمل صيغة الحكومة والحقائب الوزارية واسماء الوزراء العائدة اليها. فالتسليم بحق القوى السياسية والحزبية في اختيار الحقائب وتسمية الوزراء يجعل منها شريكاً عضوياً كامل القدرة والسطوة في تشكيل الحكومة، ومن رئيسي الجمهورية والوزراء صندوقي بريد، وهذا مخالف للدستور، إذ إن تشكيل الحكومة من مهمة الرئيس المكلف بالتعاون مع رئيس الجمهورية، الذي له وحده الحق في اصدار مراسيم تشكيلها. وتشير المعطيات الى ان وراء فشل الرئيس المكلف سعد الحريري في تشكيل حكومته أسباباً اقليمية وداخلية. فإيران تقايض الغرب بتهدئة الساحة اللبنانية وغيرها من الساحات الملتهبة وتسهيل تشكيل الحكومة اللبنانية بالتوصل الى حل حول ملفها النووي ونفوذ لها في المنطقة، وسورية تتحفظ عن تسهيل مهمة الرئيس المكلف قبل معرفة مضمون القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه. ويعود تصلب الدولتين في موقفهما الى التهديدات الدولية بتشديد العقوبات الاقتصادية على ايران، وعودة التأزم الى العلاقات السعودية - السورية والمقاطعة الأميركية غير المعلنة لدمشق. أما الاسباب الداخلية فتعود الى محاولة النائب ميشال عون تقوية موقعه في الساحة المسيحية من خلال التشبث بمطالبه التعجيزية، ومن أهمها اعادة توزير صهره جبران باسيل، الراسب في الانتخابات النيابية، على رأس وزارة الاتصالات التي تتمسك بها المعارضة كونها وزارة أمنية. باشر الرئيس سعد الحريري استشاراته النيابية، بعد اعادة تكليفه تشكيل الحكومة، وتحرره من التزاماته السابقة بشكل الحكومة وصيغتها، ما يفسح المجال أمامه لاجراء استشارات مختلفة عن سابقاتها يطرح فيها كل المواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والانمائية والمالية التي على الحكومة المقبلة التصدي لها، والتفاهم مع الكتل النيابية على قواسم مشتركة لها، خصوصاً في ما يتعلق بتعزيز الدولة ومؤسساتها الشرعية وتدعيم السلم الاهلي والوحدة الوطنية وتنفيذ مقررات باريس 3، بحيث تشكل هذه القواسم برنامج الحكومة. ويصبح عندئذ التفاهم على توزيع الحصص والحقائب أمراً غير مستعص. كما يتيح التكليف المتجدد دراسة كل الخيارات لصيغة الحكومة وشكلها. ومع انه من الانسب، في الظروف الدقيقة التي يمر فيها لبنان والمنطقة، تشكيل حكومة سياسية ائتلافية قوية قادرة على مواجهة التحديات وتحصين الوضع الداخلي، لكن المعطيات الحالية لا تشير الى تغييرات جديدة في الساحة اللبنانية تساعد على سرعة التشكيل، وأن الحكومة ستبصر النور في المدى المنظور، لكننا نأمل أن يؤدي اللقاء الأخير بين العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس السوري بشار الأسد في جدة، الى تنقية الأجواء بين البلدين الشقيقين، ما يساعد على تسهيل عملية تشكيل الحكومة. وهناك خيارات أخرى أمام الرئيس المكلف، في حال فشل في تشكيل حكومة ائتلافية أو وحدة وطنية، منها اللجوء الى تشكيل حكومة تكنوقراط من شخصيات ذات ثقة وكفاية واختصاص، تهتم بالقضايا الملحّة التي يعانيها المواطنون، خصوصاً في مجال الخدمات والتقديمات، وتحفيز الاقتصاد وترتيب الأوضاع المالية للدولة. وتُترك المواضيع السياسية الخلافية الى طاولة الحوار، بعد اعادة تشكيلها من القيادات السياسية الرئيسة فقط، ويتطلب هذا الأمر موافقة رئيس الجمهورية. ويبقى الخيار الأخير، انتظار نتائج المفاوضات بين ايران والدول الست حول الملف النووي الايراني، ومسار العملية السلمية بين السلطة الفلسطينية واسرائيل بعد اللقاء الثلاثي في نيويورك، وبلورة العلاقات السعودية - السورية. واطالة الانتظار تؤثر سلباً في الرصيد السياسي للرئيس المكلف. * كاتب لبناني.