لا مأزق أكبر من مأزق الشيعة اللبنانيين. هم يعرفون أن «حزب الله» ورطهم في سورية. لكنهم لا يستطيعون التخلي عنه لاعتقادهم أن أعداءهم لن يرحموهم. ولا يريدون، في الوقت ذاته، دفع المزيد من الأثمان الباهظة لحرب لم يختاروها. لم تعد الرطانة والمكابرة تجديان بعدما باتت الحقائق واضحة في شوارع الضاحية المقفرة وفي مئات الصور لشبان الذين سقطوا أثناء أداء «الواجب المقدس». وقعت ردود الفعل التي حذّر منها عدد من العاقلين والواعين. ووجد الشيعة أنفسهم في خضم حرب متعددة الجبهات ما زال «حزب الله» يقنعهم أنهم قادرون على الانتصار عليها كلها. لكن القناعة شيء والواقع شيء آخر. ظهر زعيم الحزب أول من أمس ليبرر الحرب التي يشارك فيها على الشعب السوري. قدم سيلاً من الحجج والذرائع يتناقص تماسكها ويتناقض منطقها الداخلي، ناهيك عن افتقارها إلى التناسق مع المعطى السياسي والتاريخي وحتى الفقهي. لكن ذلك لن يحرم الحجج من قدرتها على إقناع من لا يجد مخرجاً من الحفرة التي أوقع نفسها فيها إلا بالمزيد من الحفر. وسيواصل هذا الحفر حتى يوم مشهود. قبل ساعات من إطلالة الأمين العام للحزب، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي نشيد يحض على «حسم النصر في يبرود» التي يحاول مسلحو «حزب الله» وجنود النظام السوري اقتحامها بعد حملة إعلامية تتهم أهالي البلدة السورية بإيواء إرهابيين أرسلوا السيارات المفخخة إلى لبنان. نشيد بليد الكلمات وتافه اللحن يصب الزيت على نار الاقتتال المذهبي. يحق لمن استمع إلى الخطاب والنشيد وحمولتهما من التخوين والاستعلاء والتهرب من الحقائق الجلية، الجزم باستحالة التعايش مع من يحمل هذا النوع من الأفكار، وأن يمضي في بحثه عن حلول فردية عبر الهجرة من هذه المقبرة المفتوحة أو السعي إلى اقتطاع جزء يرفع عليه علماً ويقيم دولة تحمي هويته. خيارا الهجرة والتقسيم باتا يجدان جمهوراً لبنانياً عريضاً. بيد أن للمسألة وجهاً آخر. ذاك أن الجمهور الشيعي المقتنع اليوم أنه يعيش أزهى عصور الانتصارات والإنجازات، سيجد قريباً أن العالم يتغير من حوله. وأن الاستراتيجية الإيرانية تتبدل تبعاً لعوامل عدة، من الأزمات الداخلية إلى استمرار التوتر مع الغرب ومع المحيط. إن وظيفة الحزب ضمن الاستراتيجية المذكورة ستتغير وفق ذلك. نعم، سنشهد موجات من الديماغوجية والأصوات العالية واستعادة المعارك والمظلومية، لكن العالم مع ذلك يدور. وإخراج «حزب الله» من مأزقه مسؤولية الشيعة اللبنانيين في المقام الأول، في بلد تتراوح علاقات الطوائف فيه بين التكاذب وبين التذابح. ولا يملك الحزب تراثاً من الانفتاح على نصائح الآخرين، هو المحتكر للصواب الموحى به إليه وإلى قيادته دون باقي خلق الله. على رغم ذلك، تقدم السيد هاني فحص رجل الدين المعروف باعتداله وبمواقفه الرصينة، بعرض لمساعدة «حزب الله» على الخروج من مأزقه. وقال إنه جاهز «لمساعدة حزب الله على تجنب النهايات غير السعيدة لخياراته، التي كان يمكن الاختلاف والاتفاق حولها، إلى أن تورط الحزب وورطنا في سورية»، مستنداً إلى الشراكة والمصير بين الحزب وبين أبناء الطائفة الشيعية. حتى الآن، لا تبدو الرهانات عالية على مبادرة السيد فحص. فالغلو والمبالغة في الثقة بالنفس ما زالا يحجبان رؤية الطريق المسدود الذي بلغته خيارات (وإملاءات) ما أنزل الله بها من سلطان.