قدر لي أن أزور الصين الشعبية سائحاً قادماً من هونغ كونغ، في أوائل الثمانينات من القرن المنصرم، لأعود إليها في أيلول (سبتمبر) 2013 لحضور مؤتمر طبي عالمي في شنغهاي... وأفاجأ بانتقال الصين من حياة قروية إلى حياة حضارية بالغة. التطور الحضاري الذي حققته الصين في السنوات الأخيرة يفوق الخيال، وإذا كانت اليابان تقدمت على الصين في القرن الماضي خمسين عاماً، فان الصين في عصرنا الحاضر توازي اليابان إن لم تتجاوزها. لم تكن الصين تعرف ناطحات سحاب، التي تراها الآن بالمئات في العاصمة السياسية بكين وفي العاصمة الاقتصادية شنغهاي حيث يعلو برج شامخ لا يضاهيه في العالم سوى برج دبي. الطرق البرية التي تتقاطع على شكل طبقات وتمتد مئات الأميال في أطراف بكين وشنغهاي، تضاهي ما نراه في الولاياتالمتحدة. ومن الطريف أن نرى في أحد أحياء شنغهاي شوارع تحمل الطابع الفرنسي، فتظن نفسك أنك في باريس. وشيدت هذه الأبنية في الأيام الغابرة عندما كانت الدول الاستعمارية، مثل فرنسا وبريطانيا، تتغلغل في الشرق الأقصى. خطوط مترو الأنفاق التي تبلغ عشرة في شنغهاي تتقاطع بشكل مذهل لتنتقل في دقائق من طرف إلى طرف تفوق ما تراه في مترو المدن الأوروبية والأميركية. الفنادق التي كانت متواضعة وقليلة أصبحت روعة عمرانية في أشكالها وهندستها. وإذا كان العالم يعرف فنادق النجوم الخمسة ففي بكين وشنغهاي لفنادق من سبع نجوم وتحظى كلها بفن معماري يجمع بين الشكل الغربي والطراز الصيني القديم. المتاحف كثيرة وإحداها يمتد على طول شارع كبير في شنغهاي، حيث تمضي ساعات لرؤية التاريخ الصيني. في الثمانينات كانت العملة الصينية نوعين: واحدة للشعب الصيني، وأخرى خاصة بالأجانب القادمين لا يمكنهم استعمال غيرها في دفع نفقاتهم. أما الآن ففي الصين عملة واحدة للجميع تخضع لرقابة مصرفية خاصة. لقد طبقت الاشتراكية في عهد ماوتسي تونغ على الطريقة السوفياتية، ما أفقر الشعب وأوقف كل نمو حضاري، وحين بدلت الصين الاتجاه وطبقت الاشتراكية بمعناها الإنساني انطلقت الصين في السنوات العشرين الأخيرة باتجاه حضاري متطور. إلا انه من الملاحظ أن أخلاق المجتمع الصيني لم تتبدل بعد، فالعادات الاجتماعية السيئة ما زالت واضحة، وقد تحتاج إلى سنين كثيرة كي تتغير. سائق التاكسي يطالبك لنقلك ببضع مئات من الليرات الصينية ليقبل في النهاية بمئة واحدة. وبائع الملابس يبدأ بطلب الألف ليقبل منك مئة أو مئتي ليرة. حواجز الأمن كثيرة في الفنادق ومترو الأنفاق، في كل الزوايا والمحطات، والخوف من تغلغل السلاح والمتفجرات يفرض الحواجز الشعاعية الكاشفة في أطراف المدن. أما السياحة في الصين فمستقبلها واعد، وهي إذا كانت معدومة في القرن الماضي فإنها الآن تشكل حركة حضارية تبشر بازدهار. وأذكر أنه حينما زرنا الساحة الرئيسية الشهيرة في بكين في القرن الماضي، وهي أكبر ساحة في العالم، كانت خالية تماماً لكنها اليوم تعج بالألوف، إنما الملاحظ أن معظم السياح قادمون من بلدان الشرق الأقصى ولا تجد من القارة الأوروبية أو الأميركية إلا القليل. وحتى في المؤتمر الطبي العالمي الذي شاركت فيه وضمّ آلاف الأطباء، فان عشرة في المئة منهم كانوا من أوروبا وأميركا. وجرت العادة أن يشارك في هذا المؤتمر الذي يعقد كل أربع سنوات في إحدى المدن الكبرى في العالم، أطباء من كل دول العالم وبشكل متجانس. يأتي هذا التطور في الحياة الصينية من قرار الانفتاح الذي طبق في العقدين الأخيرين، وهذا ما سمح للاقتصاد الصيني بأن ينمو ويتغلغل في العالم. فالبضائع الصينية موجودة في كل بلدان العالم، وانعكس هذا النمو الحضاري على الحياة الاجتماعية في الصين لتصبح أكثر ازدهاراً. حتى في المجال السياسي تتمتع الصين الآن بدور في السياسة الدولية لم تكن تحظى به.