الجمعة 6/12/2013: القناع والوجه نرى من الصين قناعها، الوجه الموحد بعيداً والحكمة الغامضة، تصل إليها متعباً وتغادر أكثر تعباً، هكذا تتخيل الرحلة قبل بدئها فتتهيّب. ولكن، لا بعيد هذه الأيام، والمسافة تطول أو تقصر بقدر المعرفة، تلتقي الحضارات والأفراد عند تقاطعات عدة، وتوضع على الطاولات مشاريع مادية وتفاهمات فكرية ومناجيات. المطار عالمي والطريق السريع والفندق، أين الصين في بكين؟ قد تراها في ما تبقى من أحياء قديمة لكنك تراها بالتأكيد في «القصور المحرمة» حيث كان الأباطرة يحكمون مملكتهم ذات الامتداد الآسيوي والحضور القوي في نزاعات العالم القديم. صورة ماوتسي تونغ وحيدة فوق أحد الأبواب. قيل انه كان يعتزم اتخاذ القصور المحرمة مقراً بعد نجاح مسيرته الثورية والقضاء على الحكم الوطني الذي كان يرأسه تشان كاي تشيك الذي يجمع الصينيون على أنه نقلهم من القرون الوسطى إلى الحداثة. لأمر ما تراجع ماو عن الإقامة في القصور المحرمة، ويردد بعضهم أن عرافاً نصحه بذلك وحذره من أن الإقامة هذه ستقصر عمره وعمر حكمه الثوري. هذا يعني أن ماو المغرق في ماديته كان يستشير عرافين، وقد نجد هنا تفسيراً لميوله الشعرية التي لم تنتج سوى قصائد محدودة الخيال. سياح صينيون وأجانب في القصور المحرمة، بالمئات ولا نخطئ إذا قلنا بالآلاف، يمشون على الأقدام ساعة ونصف الساعة أو أكثر قليلاً. والممرات البازلتية تختلف درجات لونها من الرمادي إلى الأسود، محددة بذلك طبقات المارة، ففي الوسط يمشي الإمبراطور وأنسباؤه، وعلى الطرفين الحاشية، وفي أقصى الطرفين الخصيان الذين يخدمون النساء ولا يشكلون خطراً. هناك 999 غرفة في مجموعتي القصور، المجموعة الأولى الأمامية لإدارة الحكم والثانية الخلفية للإقامة العائلية. (الرقم 9 هو رقم الحظ في الصين). تحف معمارية حرم عامة الناس من زيارتها منذ القرن الخامس عشر الميلادي وحتى عام 1925 عندما فتح الحكم الوطني أبوابها للراغبين. وأدى التحريم إلى تغليف القصور بغلالات من الأساطير، بعضها يربط هندستها بمواقع لنجوم الحظ والسعد. يكتفي أهل بكين من تراثهم بالقصور المحرمة لأنهم مشغولون بالتحديث المتسارع الذي يلفت نظر العالم، تحديث يجمع الحكم الشيوعي وإدارته الصارمة بالاقتصاد المفتوح وتراكم رأس المال والاستثمارات. إنها تجربة اللقاء غير المسبوق بين الضبط والإطلاق، خصوصاً لجهة سياسة الطفل الواحد، التي بدأ تطبيقها في ثمانينات القرن الماضي فحدّت من النمو السكاني وساعدت في العبور من مرحلة موجات الجوع إلى ترسيخ الصين كثاني اقتصاد في العالم. يمكن المجتمعات الأخرى أن تستفيد من التجربة لا أن تنقلها حرفياً، لأن صين اليوم تقدّر الاختلافات الحضارية لدى تطبيق نظم سياسية واقتصادية، بعدما تسبب التعميم و «التوحيد» في تخريب مجتمعات أثناء السعي إلى إنهاضها. السبت 7/12/2013: الجامعة جامعة الدراسات الأجنبية في بكين تضم كلية للدراسات العربية أنشئت في عام 1958، ويتولى خريجوها العلاقات مع العالم العربي في وجوهها المتعددة. في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي نظمت الجامعة مؤتمرها السنوي وكان موضوعه مرور 130 سنة على ميلاد جبران خليل جبران، وتناول المشاركون جوانب من أدب جبران، وتميز أحد الأبحاث في تقصي العلاقة بين لوحات جبران وأعماله الشعرية. وترجمات الأدب العربي حاضرة، لكن كتب جبران هي الأكثر مبيعاً بين الأعمال الأجنبية المترجمة، وقد أدرج أحد نصوصه المترجمة في الكتب المدرسية فصار اسمه وأجواؤه في خيال الصينيين جميعاً لأن المناهج موحدة في البلد الذي يتجاوز سكانه البليون نسمة. ولنجيب محفوظ عشر روايات مترجمة إلى الصينية ولميخائيل نعيمة كتابه «سبعون»، فضلاً عن أعمال شعرية ونثرية عدة أحدثها رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان» التي ترجمها شوي تشينغ قوه. شوي الذي حاز الدكتوراه في الأدب العربي يتولى إدارة كلية الدراسات العربية، وهو متمكن من العربية والصينية وذو أسلوب أدبي لا يخطئه القارئ. قال إنه ترجم إلى الصينية أيضاً أربعة كتب لأدونيس، ثلاث مجموعات شعرية ومجموعة نثرية واحدة، وهو صنف المجموعات بنفسه بعدما قرأ أعمال أدونيس الكاملة. عناوين المجموعات الشعرية «عزلتي حديقتي» و «تجاعيد الوقت» و «غابات الحب» أما المجموعة النثرية فعنوانها «الكتابة في أفق المعنى». المفاجأة هنا أن «عزلتي حديقتي» طبعت إلى الآن 11 طبعة، ما يجعل أدونيس منافساً لجبران في طليعة الكتاب الأجانب الذين يقرأهم الصينيون. ولاحظ الدكتور شوي الذي يطلق على نفسه الاسم العربي «بسام»، أن الصين حاضرة لدى كثيرين من كتّاب العرب وشعرائهم في العصر الحديث، فميخائيل نعيمة تأثر بالفكر التاوي وكتب عن لاوتسو معتبراً إياه معلمه الروحي، وتناول جبران الصين في مقطوعة عنوانها ما معناه «لكم أفكاركم ولي أفكاري»، كما وردت الصين عشرات المرات في قصائد لنزار قباني الذي عمل لفترة في سفارة سورية في بكين، وكتب بدر شاكر السياب قصائد من وحي أساطير صينية، وأهدى عبدالوهاب البياتي قصائد إلى ماوتسي تونغ، وكتب حنا مينة ثلاثية روائية عن الصين، كما كتب جمال الغيطاني نصوصاً نثرية وسعدي يوسف قصيدة «3 أسابيع 3 مدن». وتناول خليل مطران سور الصين في أحد نصوصه من وحي زيارة خيالية إلى السور. أما أدونيس فكتب نصاً مطولاً بعد زيارته الأولى إلى الصين عام 1980 نشره في «النهار»، ونشر أخيراً في «الحياة» نصوصاً ترجم منها نص «تمطر حبراً صينياً». كتابات عن الصين في الأدب العربي، عن أفكارها ومن خلال الأوهام عنها، لكن تبادل القراءات والزيارات وتسارع وسائل الاتصال ستؤدي إلى تبادل ثقافي أعمق تأثيراً في الطرفين. ولكن، لا يمثل كل كاتب بلده وحضارته بقدر ما يمثل نفسه، والقارئ يتفاعل مع النص بغض النظر عن الانتماء الأصلي لكاتبه... هكذا تسير الأمور في عالمنا. في لقاء عابر مع الشاب لي جويا خان الذي يحضر الماجستير في الدراسات العربية ويسمّي نفسه «حكيم»، قال إنه قرأ أخيراً بالعربية رواية «الأجنحة المتكسرة» لجبران ووجد في عالمها الرومانسي وفي مسرح أحداثها بلدة بشري اللبنانية ذات الطبيعة الخلابة ما أنعش نفسه وما أخرجه من حالات حزن وانكفاء. الأحد 8/12/2013: عرب هناك فوجئت بالمفكر السوري فراس السواح أستاذاً محاضراً في جامعة بكين، لقد نجا من حمص المدمرة ولم يجد في بيروت مكاناً فلبى نداء بكين، وهو مقيم هناك منذ حوالى سنتين. كم هي بعيدة سورية وكم هي قريبة، لا يتداخل السواح في نقاشات العرب القليلين العصبية في الشأن السوري. قليل الكلام ويكتفي بالتأمل فتشعر انه يكتب فيما يعيش تجربة العيش في حضارة مختلفة. يختلف السوداني جعفر كرار فهو مقيم قديم في بكين، ومنذ سبعة عشر عاماً يتنقل بينها وبين قطر وبريطانيا. يعمل في جامعات ومراكز أبحاث ويتولى منصباً استشارياً لدى حكومة قطر في الشؤون الصينية، ولا يحتفل كرار بعصبيات متسرعة تجاه الشأن السوري، وإذ ينظر إلى المشكلة من وجوهها المتعددة يشعر بالأسى. وفي بكين مسعود ضاهر، رافقته في الرحلة ذهاباً، وفي رفقته فائدة فالمؤرخ اللبناني اهتم مبكراً بشؤون اليابانوالصين، وانفرد عن المدعوين بمحاضرة ألقاها على طلاب الدراسات العربية كأنه أستاذ زائر يتمتع بالثقة. فراس السواح أيضاً، حين كان في حمص وكانت حمص، كان جمهور محاضرته يفيض عن القاعة، وهو شعر بواجب المفكر في الأشهر الأولى للثورة فحذّر من السقوط في وهدة الطائفية وتفتيت المجتمع، واعترض على التسميات التي تطلق على تظاهرات أيام الجمعة، لكن الحماسة لم تلتفت إلى قوله وحين التفتت أساءت إليه فودع قراء صفحته في موقع التواصل الاجتماعي: «في زمن القتلة والجنون الجماعي لأمة بأكملها، تنسحب الحكمة إلى مخبئها ويغدو صوت الحق مثل نهيق حمار تائه في الصحراء لا يسمعه أحد». الحكمة السورية انسحبت إلى الصين وصاحب «مغامرة العقل الأولى» يقيم هناك. الأربعاء 11/12/2013: كريستيان غازي التقيت كريستيان غازي قليلاً حين كان في شارع الحمرا ومتفرعاته ينظم أممية عابرة للأجيال واللغات، اشتراكية، ولكن، معنية أساساً بالفنون. تسلية مبدع في زمن غير زمنه، فقد رحل الأصدقاء مع مادونا الزوجة والحبيبة والفنانة التي لا تعوض، وصمت الأصدقاء الآخرون وتفرقوا في أمكنة متباعدة. كان أمام الرجل أن يتصابى مع الجيل الجديد، أي أن يكون معلماً مع كرهه مهنة التعليم. مخرج سينمائي من باب النضال السياسي، ومذيع لدواعي ضرورات الأمن والعيش، وشاعر نسي في مكان ما دواوينه المطبوعة والمخطوطة، شاعر فرنكوفوني بالطبع. كريستيان غازي من قبل ومن بعد، هو سياسي لبناني خارج زمن لم يأت بعد وربما لا يأتي، ومثل مثقفين يساريين يشبهونه، التقيته في صالون سياسي منذ لا أذكر من عشرات السنوات. كنا نتناول بالنقد الانتخابات النيابية في لبنان، ففاجأنا بالقول كأنه لا يسمعنا: كيف يمكننا تهريب السلاح إلى ثوار ناميبيا؟ ووضع الخريطة على الطاولة وسط دهشة الحاضرين.