رأيت صورته على صفحة «فايسبوك»، لم أصدّق أن يأتي هذا الزمان الذي أراه فيه بلباسه العراقي التقليدي على صفحة النت، بوجنتيه وقد اكتستا بالحمرة، ولم يخالط الشيب شواربه، ربما لأنه كان يصبغهما دائماً، صورته ذاتها عام 1964، وفيما بعد، وعام 1999 في عّمان، ثم في ما بعد في السماوة... بالحجم نفسه، الحركة نفسها، حركة العين ذاتها وميلة العقال والشماغ، اسمه الغريب بالنسبة الينا، نحن الذين فتحنا أعيننا على أول مدرسة بُنيت من القصب، وكنا أول تلامذتها... أرسلتنا عوائلها إليها لكي نتعلم القراءة والكتابة فقط لا غير... لكي نقرأ لهم الرسائل التي تصل ونكتب الردود عليها... ولكي يتخلصوا بواسطة معرفتنا القراءة والكتابة من شرور الدولة... أحياناً كان والدي حين يغضب يؤكد أنه يريدنا أن ندخل الى الجيش لكي نقلب دفة الحكم... لهذا يواصل قسوته معنا في الدراسة، كنا نذهب حفاة، بثوب واحد، سواء كان الطقس حاراً أو بارداً... وحال عودتنا من المدرسة علينا العمل في الرعي أو مراقبة جداول المياه أو السقي أو الحصاد أو جمع الحطب أو حتى ملاحقة الطيور أو أسراب الجراد وهي تهجم على الحقول... لا مجال لأي راحة أو هدوء بال... انها المرارة التي يتجرعها المرء صغيراً... حافياً جائعاً... جيمس هذا، كان من ابطال طفولتنا الغامضين، ابنه ريسان كان معي في الصف، ولكني لم أره منذ زمن طويل... فكّرت بأن أكتب الى أخي كامل فهو عايش الفترة التالية بعد خروجي أو بعضها، على الأقل. * عزيزي كامل توفي أبو ريسان في السماوة، جيمس آل مريهج... التقيته بعد سنوات طويلة في الأردن، وكأنه لم يتغيّر... هو الشخص ذاته في منطقة «الخشكة» حيث كنا ندرس الابتدائية في مدرسة «مصطفى جواد» القصبية... وفي ما بعد، بعد 27 عاماً ربما، التقيته في القرية، أمام بيتنا، وكان يتجنب زيارة السماوة لأسباب ثأر أو حكم قضائي من الدولة أو شيء من هذا القبيل... لكني لم افلح في الإلتقاء بولده زميلي في تلك السنوات بسبب مهماته الوظيفية... جيمس آل مريهج... توفي، انتظر ترجمتك ل» الانفجار العظيم» أنا ببيروت أخبارك؟ أخوك خالد * الأخ خالد، شكراً لبريدك. أتمنى أن تكون بيروت على ما يرام. الخطة هي أنني سأذهب إلى البلاد التي جئنا منها في نهاية هذا العام، في ديسمبر/ كانون الأول. والخطة هي أنني يجب أن أتخلص من الكتاب قبل هذا الموعد. لقد صدر لي بحثان علميان هذا العام، أحدهما وفقاً للمجلة الدورية التي نشرته يعتبر من القمة 2 في المئة، وفقاً لمقياس/معيار هذه المجلة وربما جلب هذا الكثير من القراء. أحلم، أخطط بالذهاب/العمل/العيش إلى عُمان أو الخليج، إذا لم تصلها رياح الربيع العربي. أنا أعمل الآن، من بين ما أعمل عليه، على كائن أحادي الخلية يعيش حراً في المياه أو يعيش معيشة تكافلية في تجاويف حلزون يعتبر المضيف الوسطي لطفيلي البلهارزيا. ما الذي يفعله في ثنايا الحلزون؟ أنه يقوم بإلتهام كيس أبواغ البلهارزيا ولذلك فأن هذا الكائن يُسمّى: ملتهم الأبواغ الأوجارزاكي. أن أكثر ما يثيرني فيه هو اسمه. لقد بعث به إليّ باحث من أسبانيا. إذا نظرت إليه تحت المجهر، بدا مثل فتات الخبز. بالنسبة الى جيمس، ومن هو معه الآن ولكن كيف يكون ذلك، بل لن يكون ذلك. لم أره عندما زرت البلاد التي جئنا منها ولكنني رأيت «عاجل». ذهبت إليه مع وفد من رجال العشائر إذ كانوا يحاولون إستشارته في أزمة عظيمة طرأت. حيث قتل أحدٌ احداً وكان القاتل قد سلّم نفسه إلى الشرطة... ولكني كم عجبت منه، أي من «عاجل» حيث عبّر عن أسفه وأخبرهم بأن القاتل لو لم يسلّم نفسه إلى الشرطة لهان الأمر ولسهل حل الأزمة. طبعاً هو يتحدث عن «الفصل» بين الناس وفقاً لنظام العشيرة وربما كان يشير إلى أنه لو أن القاتل ما زال طليقاً/هارباً/متخفياً/متحدياً لكان بإمكان عشيرة القاتل أو عائلته من ممارسة بعض الضغط/التملص/... ومما يثير في الأمر أن رجال العشائر ومن حوله في المجلس هم ممن يعملون في الحكومة ويمارسون الوظائف المدنية وربما كان بعضهم من الشرطة/المحافظة/الأمن/العدل ولكنهم في تلك الليلة كانوا يرتدون جلابيب رجال العشائر. كم وددت لو أني قريب من هذه الأحاديث. لدى المرء الآن قدرة على تمييز تجاعيده. كنت قد بعثت لي بصورة جيمس أنت عندما ذهبت إلى الأردن في نهاية التسعينات لرؤية أمي. لقد أخبرتني أن أمي ألحّت عليكَ بمنحه شيئاً ما، شيئاً من النقود ولكنك رفضت. وكذلك أخبرتني أنه سألك ما إذا كنت تقدر وتلتزم بنظم العشائر فنظرت إليه وجهاً لوجه وقلت له لا أبداً. يقال إن اسمه جيمس لأن أباه سماه على اسم صديقه الإنكليزي عندما كان الإنكليز في العراق (James) وكذلك أسمى جيمس أحد أولاده كالف (Kalf) على اسم صديق أجنبي آخر. هكذا سمعنا. ولكني ماذا فعلت عندما قرأت بريدك؟ استلقيت وتذكرت حياتنا. ولكن ماذا تذكرت؟ تذكرت كل حيواتنا. أعني تذكرت كل الكائنات التي مرت بنا أو مرت بنا. أعني أنني تذكرت كم ذهب من الآباء والأمهات والأقارب والكلاب والحمير والبقر. أعني أننا هُم. أعني أن هذه هي حياة الكائن، حياتنا. أعني تذكرت كلبتنا «شغنابة»، وحمارتنا «الحمراء»، ونعجة أمي «حتّوب»، وقطتنا «هرلو»، وحماراً بطيئاً كنت أمتطيه وكان لا يسير إلا آخر الركب، وحمارة جارنا «صُحين» التي أصابها ورم في فكها فقالوا هذا هو الزّمّال وربطوها في السباخ كي تموت ولا تعدي الحيوانات الأخرى ولكنها شفيت بعد فترة من الوقت فعجب الناس منها... أعني نحن حباحب ليل. الصبح أتى. كامل.