عندما مات العلامة حفني بك ناصف رثاه الشاعر علي الجارم، مخاطباً القبر الذي ضم رفاته، فقال بلوعة شديدة: «يا قبر حفني أجبني/ ماذا صنعت بحفني؟ / ماذا صنعت بعلم؟/ وما صنعت بفن/ يا قبر حفني أجبني/ وارحم بقية سني؟». وفي كتابه «الشرق في فجر اليقظة» يقول أنور الجندي عنه: «كان حفني ناصف حاضر البديهة، حلو النكتة؛ فقد طلب منه الطبيب - بعد أن زاره في مرضه - الامتناع عن المطالعة؛ ثم عاد بعد يومين فرآه يطالع كتاب «روح الاجتماع» فغضب الطبيب، وقال له بحدة: ألم أنهك عن المطالعة؟ فابتسم حفني، وقال له: لا تغضب؛ فقد كنتُ أطالع في الروح، يعني الموت»! أجل، إن حفني ناصف هو أول من قام بكتابة وطبع المصحف الشريف، على طريقة عثمان بن عفان، وفق قواعد الإملاء الحديثة؛ فأحدث بدعة لم يستطعها أحد غيره وقتها! وهو أحد أوتاد النهضة الأدبية الحديثة، ودعامة من دعائمها، صال وجال في شتى مناحي الحياة الفكرية، فكان من الشعراء المبرزين الذين يحتلون مكانة سامقة من أمثال: البارودي، وصبري، وشوقي، وحافظ، ومطران. يكفيه فخراً أنه كان أستاذاً بمدرسة الحقوق، فتعلّم على يديه أقطاب الوطنية ونجوم السياسة، وأرباب الأدب، أمثال: الزعيم مصطفى كامل، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وشيخ العروبة أحمد زكي باشا، واستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، وعبد الخالق ثروت، والاقتصادي الكبير طلعت حرب، وإسماعيل صدقي، وعبد العزيز فهمي. كما تخرج على يديه في الجامعة المصرية القديمة طه حسين، وغيرهم. ووصفه الأديب إبراهيم الدباغ، فقال: «كنت أكثر حذراً في الكلام والتملق مني، وأنا بين يدي حفني ناصف! لأني رأيت الرجل أكبر معلم لحسن المحاضرة ومراعاة شروط الأدب». كانت كبرى بناته الشاعرة ملك حفني ناصف- قد أجادت وأبدعت في فن القريض، وعرفت بلقب (باحثة البادية) إلا أنها لحقت بربها قبل والدها، إذ توفيت في عام 1918م. ومن طريف ما يروى أن حفني ناصف بعث لكريمته ملك، يروي لها ما عاناه من جراء عملية جراحية أجريت له في عينيه من دون مخدر، فقال يصف ما حدث بدقة واقتدار: «ولقد ذكرتك والطبيب بجانبي/ والجسم فوق فراشه مطروح/ وجفون عيني بالملاقط فتحت/ وبها المباضع تغتدي وتروح/ والخيط يجذب في الجفون بإبرة/ جذباً تكاد تفيض منه الروح/ فطربت من وخز الحديد كأنه/ قول برفض العذل فيك صريح»! فأجابته على الفور بقولها: «من مبلغ عني طبيبك أنه/ يفري بمبضعه حشاي وأضلعي/ فاسلم أبي، وانظر إلي برأفة/ عيني فداؤك كي أقر ومسمعي»! ذات يوم؛ قام ستة من البلغاء برثاء الإمام محمد عبده، في ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاته، هم على الترتيب: الشيخ أبو خطوة - عضو المحكمة الشرعية العليا، وحسن عاصم باشا، وحسن عبد الرازق باشا، وقاسم أمين، وحفني ناصف، وحافظ إبراهيم. وبالترتيب نفسه كان انتقالهم تباعاً، الواحد بعد الآخر إلى الدار الآخرة، كما لاحظ ذلك شاعرنا حفني ناصف، وهو على فراش المرض، فكتب لصديقه حافظ إبراهيم يقول منوهاً بما تقدم: «أتذكر إذ كنا على القبر ستة/ نعدد آثار الإمام ونندب/ وقفنا بترتيب وقد دب بيننا/ ممات على وفق الرثاء مرتب/ أبو خطوة ولى وقفاه عاصم/ وجاء لعبد الرازق الموت يطلب/ فلا تخش هلكاً ما حييت فإن أمت/ فما أنت إلا خائف تترقب»! ثم نراه، يداعب صديقه حافظ بهذين البيتين الطريفين، اللذين ينمان عن خفة ظله، وطلاوة دعابته: «فخاطر وقع تحت الترام ولا تخف/ ونم تحت بيت الوقف وهو مخرب/ وخض لجج الهيجاء أعزل آمناً/ فإن المنايا منك تعدو وتهرب»! كان حفني ناصف من أشد المعجبين بالإمام محمد عبده في إصلاحه ومنهجه التربوي، لذا تأثر بموته، فرثاه قائلاً: «مات الإمام فيا سماء تفطري/ فلذاً وطيري يا بحار بخاراً/ وتصدعي يا أرض وانضب فجأة/ يا نيل وأمطر يا سحاب حجاراً». عندما نقل حفني ناصف، من مدرسة الحقوق إلى القضاء الشرعي، مع منحه لقب (البكوية) خاطبه مصطفى كامل شعراً: «يا مصدر الأمجاد يا من في الممالك/ لا يضارع ما حواه جليل/ بشرى برتبة سؤدد قد نلتها/ بكمال مجد لست عنه تحول»! ويروي نجله «مجد الدين» أن الأزهريين كانوا يستكثرون عليه نظمه القصائد الجياد، التي كان يلقيها في بعض أروقة الأزهر في المناسبات العامة والحفلات الأدبية، فاقترح أشعرهم في ذلك الوقت، وهو الشيخ عبد الرحمن قراعة، أن يساجله حفني ناصف في شعر ينظم على البديهة ارتجالاً، حدد هو موضوعه، واختار بحره وقافيته. فساجله حفني على مشهد من الطلاب، حتى صنعا معاً أكثر من مئة بيت في أقل من ساعة! ومنذ ذلك الحين؛ سلم الجميع بشاعريته، وطفق شداة الأدب والشعر بالأزهر يلتفون من حوله، ويعرضون عليه قصائدهم، للاسترشاد بنقده وتوجيهاته. ويروي الشاعر محمد مصطفى حمام أن صديقه الشاعر البائس عبد الحميد الديب، قام بكتابة البيتين التاليين على ورقة، إلى حفني بك ناصف (المفتش الأول للغة العربية ) فقدمها إليه ساعي مكتبه قائلاً له: إن صاحبها ينتظر بالباب: «جارت علي الليالي في تصرفها/ وأغرقتني في لج من المحن/ فيا عميد القوافي أنت معتصمي/ أقل عثاري وأنصفني من الزمن»! فما كان من حفني ناصف، إلاَّ أن سارع بنظم البيتين التاليين، رداً على الشاعر المستجدِي، من البحر والقافية نفسيهما: «يكاد شعرك يبكيني ويضحكني/ ولم أزل ساخراً من ظنك الحسن/ فاقبل عطائي بلا شكر ولا غضب/ فليس والله في جيبي سوى شلن»!