إذا كان من رواية فردية تحمل من الألم والأسى والحب واختبار القناعات السياسية والقيم الانسانية ما يختصر ثورة كاملة، فهي لا شك قصة المعارض السوري فايز سارة مع ابنيه وقد تبلغ بمقتل أحدهما (وسام) تحت التعذيب فيما الآخر قابع في أقبية معتقلات الأسد. ثمة حبكة على قدر من الترابط الدرامي في ثنايا تلك القصة تعيدنا الى أعمال أدبية وسينمائية عالمية وثّقت حقبات زمنية عبر روايات أفراد تشابكت سِيرهم الضيقة مع أحداث هائلة من حولهم. لكنها هنا ليست ثمرة خيال كاتب جامح أو عمل هوليوودي، بل واقع يومي يعيشه ملايين السوريين. هكذا يختطف شاب من الشارع فإذا به ابن معارض سياسي قضى عمراً في سجون نظام الأسد، وخرج مثقلاً بظلمة الأقبية وصمتها فاستعاد نشاطه عبر ثورة أطلقها جيل أبنائه. توسم فيهم خيراً، وطمح أن يحققوا ما عجز عنه جيله فذهب الى طاولة مفاوضات جلس اليها في مواجهة جلاده وجلاد ابنيه فيما هو صامت عن مأساته الشخصية. لا يبوح بها، يتركها لنفسه خوفاً عليهما ربما، وربما خجلاً من أن يعتقد بعض المغرضين انه يستثمر فيها، أو ربما أيضاً شعوراً منه بذنب ما حيالهما... الى أن بلغه خبر موت وسام تحت التعذيب بعد أيام قليلة على صدور تقارير وصور تشرح آليات ذلك الموت البطيء وتوثقها في جثث جائعة ومثخنة. الأب صامت، يتخيل جسد ابنه الغض بين تلك الصور، لكنه لا يخرج من قوقعته. يفاوض ويفاوض حتى جاءه خبر الوفاة الذي قطع الشك باليقين. وحده الموت يخبرك أن العذاب انتهى. «لا اريد أن أتخيل ما جرى له»، قال سارة للمذيعة التي سألته عن حيثيات وتفاصيل هو لا يملكها أصلاً. فليس في الأفرع الامنية من شعور بضرورة تبرير فعلته أمام أحد. قال سارة للمذيعة إنها «مملكة الصمت السوري» التي بناها نظام البعث منذ عهد الأب، ولا تقتصر على الجدران والاقبية وانما تعشش في كافة مفاصل الدولة. وهذا أيضاً ما تفعله مملكة الصمت السوري في النفوس. تشرك الضحية في القسوة على ذاتها وجلد نفسها مراراً وتكراراً باختبارات قوة ونبل وترفّع فتدفعها الى البكم المطبق واجترار الألم بلا صخب ولا ضجيج. هكذا بات البكم سمة شعب كامل، وجيل ينتمي اليه سارة الأب. انه «جيل التمرد القديم» كما يسميهم ياسين الحاج صالح في مقدمة كتابه «بالخلاص يا شباب»، هؤلاء الذين انتظروا مثله 15 عاماً حتى يبوحوا، فيما سارة الابن من «جيل يدوّن وينشر أولاً بأول». وإذ يندد الأب بالصمت الرسمي حيال مصائر مئات، بل آلاف، المعتقلين لدى الاجهزة، مارس بدوره رقابة وصمتاً ذاتيين بأن أخفى حقيقة اعتقال ولديه عن أقرب المقربين اليه. هكذا هي الضحية المطلقة، سواء كانت ضحية جريمة فردية كما في الاغتصاب حيث يختلط الذنب بالعار، أو جماعية كما في الابادات والمجازر والتهجير القسري حيث يطغى الرعب على ما عداه، فيصبح الصمت معبراً الى خلاص ما. واذ يقدم التاريخ الحديث نماذج كثيرة عن ذلك البكم الذي يصيب مجموعات عرقية أو دينية أو سياسية لا تكشف مأساتها الا بعد سنوات او عقود أحياناً، فإن سورية نفسها تذخر بالأمثلة عن صمت أسدي عام وخاص، فردي وجماعي غير بعيد في الذاكرة قد يبدأ بمجزرة حماة ولا ينتهي بوفاة وسام. تلك معضلة يعيشها كل من لديه معتقل لدى نظام كنظام البعث. هل يبوح فتساهم «الفضيحة» بتسريع الافراج عنه، أم تسرع بتصفيته؟ هل يعض على الجرح فيترك بصيص أمل بخروجه من تلقائه، أم يساهم بذلك في نسيان القضية؟ وإذا كانت درجة الالم توجد لصاحبها راحة في الموت، فهل من قسوة تفوق جعل أب يعتقد ان مصير ابنه يتوقف على بوحه او سكوته؟ دوامة غالباً ما يحسمها الصمت الى أن يقضي الله أمراً. ولصمت الاب هنا بعد آخر. هو ذلك الذي أفصح عنه لابنه بعد رحيله، طالباً منه بعض التفهم وربما السماح. صمت عام، سياسي، يحمل مآخذ على الثورة وما آلت اليه من متاجرة واستثمار مما لا يريد سارة أن يسجل عليه. فهو وان آمن بتلك المسيرة النضالية ولم يرغب في منح النظام وراكبي الثورة على السواء فرصة للتشفي، يرى بوضوح تام مسارات الانحراف الكثيرة التي لا يملك حيالها إلا تجرع السم بكثير من الصمت. عزاؤه الوحيد أن ابنه «واحد من هؤلاء الشباب»... وأنه واحد من هؤلاء الآباء. * صحافيّة وكاتبة من أسرة «الحياة»