كثيراً ما تخدع عناوين الكتب القارئ، إذ إنها لا تتوافق مع مضامين الكتاب، وقد توحي بمواضيع مخالفة لما تقوله النصوص. لكن الكاتب التشيكي ميلان كونديرا بدا حريصاً في كتابه «غراميات مرحة» على المواءمة بين العنوان، كعتبة نصية، وبين ما يطرحه الكتاب الصادر بترجمة محمد التهامي العماري المتقنة عن المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء، بيروت). يصنف الكتاب على أنه «رواية»، غير ان هذا التصنيف ليس دقيقاً إذا ما أردنا أن نعيد إلى الأذهان بنية الرواية التقليدية. صاحب «الكائن الذي لا تحتمل خفته» لا يروي حكاية مترابطة عن شخصيات محددة، ولا يتقيد بمنطق حكائي متجانس، وإنما يستل مجموعة حكايات تتشارك في موضوع متقارب، بيد ان الشخصيات تتغير وكذلك الأمكنة والسياقات. لا يقلل ذلك، بالطبع، من قيمة الكتاب، وإنما هي ملاحظة تسجل لمصلحة كونديرا الذي يعرف كيف يربط بين سلسلة من المواقف والحالات الانسانية المتشابهة، ليدمجها ضمن لوحة بانورامية متناغمة، ويقدمها عبر خمسة فصول: لا أحد سيضحك، التفاحة الذهب للشهوة الخالدة، لعبة الأوتوستوب، المسامرة، ليُخلِ الموتى القدامى المكان للموتى الجدد، الدكتور هافيل بعد عشرين سنة، وإدوارد والرب. سيخفق القارئ إذا ما أراد البحث بين سطور الكتاب عن قصص اللوعة والغرام والرومانسيات الناعمة؛ العابقة بالوجد والرسائل المعطرة التي يتبادلها العشاق، وسيخفق كذلك إن حاول البحث عن تلك المشاهد الحسية المحمومة، وعن نزوات الجسد ورغباته. ما يقدمه صاحب «الضحك والنسيان» هو شيء من هذا وذاك. هو مزيج بين الرؤى الغرامية الحالمة وبين الشبق الجنسي. يشتغل كونديرا، إذاً، على تلك المساحات الفاصلة بين الرومانسية الهادئة والرغبة المتأججة، محاولاً النفاذ، كما هو دأبه، إلى أعماق النفس البشرية ومعرفة خباياها ودوافعها وميولها الغامضة ومخاوفها ومباهجها. ومهما تشعبت المسارات والمواضيع، فإن كونديرا يلتزم بعنوان كتابه، إذ يسخّر مهاراته السردية لتوضيح أجواء غراميات مرحة جرت في الحقبة الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا السابقة. ولئن بدا هذا التفصيل الأخير نافلاً، بيد أنه ليس كذلك لدى كونديرا الذي يمزج بين السياسة والواقع الاجتماعي، ويلوذ بالأساطير واللاهوت في سبيل تفسير موقف معين، ويلجأ إلى التاريخ بحثاً عن اسقاطات معاصرة، ويبحر في الكلاسيكيات والسرديات الكبرى ليصوغ رأياً فلسفياً في الوقت ذاته الذي يروي فيه دعابة بسيطة. ومثل هذا الدمج بين القضايا الكبرى واليوميات العابرة هو ما يميز كونديرا في هذا الكتاب، وكتبه الاخرى. إنه يقدم نصاً بسيطاً ومعقداً في آن، ويصعب توقع وقائعه التي تأتي بطيئة؛ شحيحة. لا يميل صاحب «البطء» إلى الاسترسال في وصف الأمكنة وملامح الشخصيات وعرض الوقائع إلا بالمقدار الذي يخدم رؤاه الفكرية. وهو، في المقابل، يسهب في إعطاء بعض المواقف التي يراها جديرة بالاهتمام، المساحة التي يستحقها من التعليل والتفسير والشرح، فكلمة المرأة، مثلاً، أو القبلة أو الخطيئة أو المنزل أو الشوق أو الهوية... ستفتح أبواباً واسعة للغوص في متاهاتها ودلالاتها. يستثمر خبراته ومعارفه، هنا، في سبيل الوصول إلى معرفة تلك الجينات الخفية التي تجذب الرجل إلى المرأة أو العكس، ويمضي في اقتناص لحظات العشق والجفاء، وحالات الوله والملل من خلال مواقف قد تبدو مألوفة وعابرة، بيد أن كونديرا يعرف كيف يضعها ضمن سياق سردي جذاب. تتشابك قصص في هذا الكتاب، وهي قصص لا تنجو من سخرية كونديرا، كما أنها لا تنأى عن ذلك البعد المعرفي الرصين. بين التهكم والرصانة ينجح الكاتب في صوغ عوالم خاصة يصعب أن ننسبها إلى كاتب غير كونديرا الذي استطاع أن يعثر، عبر مختلف كتبه، على أسلوب يصعب تقليده أو الكتابة على منواله. في الفصل الأول، يستعرض كونديرا محنة استاذ الفن التشكيلي المرموق، وهي محنة وضع نفسه فيها. لقد كتب تعليقاً جميلاً على مخطوط مقال أُرسل اليه بالبريد، وهو في حالة «نشوة احتفالية «مع عشيقته... وبدلاً من أن تُفهم كلماته على أنها بلاغة ودية لا علاقة لها بجوهر الفن وفحوى المقال. لكن صاحب المقال يعتبر التعليق مدحاً وثناء، فيطلب من الأكاديمي أن يكتب خطاباً لهيئة تحرير إحدى المجلات المتخصصة، التي ترفض نشر المقال، كي ترضى بنشره. يلاحق صاحبُ المقال الأكاديميَّ في كل حركاته وسكناته. وعلى رغم تهرب الأخير، إلا أن صاحب المقال كان من نوع «القدر المحتوم»، يطارده في كل مكان ويكشف علاقات الأكاديمي مع عشيقاته إلى أن يتورط الجميع في الموضوع. يريد كونديرا من وراء ذلك القول إن عبارات الإطراء التي نلقيها بصورة عفوية وحسن نية لأناس حمقى سرعان ما تتحول إلى مصدر بلاءٍ يكشف نفوس البشر، ويميط اللثام عن علاقات غرامية مرحة كانت قبل ذلك تدور بعيداً من أعين الفضوليين. وفي فصل «التفاحة الذهب للشهوة الخالدة» سنتعرف إلى مارتي؛ ال «دون جوان» الذي خاض مغامرات لا تحصى مع النساء، وهو، فوق ذلك، وفيّ لزوجته ويراعي مشاعرها إلى حد يثير استغراب صديقه الودود والخجول الذي يفتقر إلى خبرته في شأن العشق والغرام والتودد إلى النساء. يقول مارتي لصديقه الخجول: «التودّد للمرأة هو درجة عالية من النشاط ينبغي ألا نفقدها، وذلك بالتدرب المستمر عليها». تبعاً لهذا الفهم، سنرافق مارتي وصديقه في رحلة إلى إحدى البلدات القريبة من براغ، وسنصغي إلى نظرياته المبتكرة وسنرصد مواقفه الطريفة والجريئة مع الجميلات والقبيحات والكبيرات. ويستعيد كونديرا في فصل آخر حكاية عشق انتهت بالفراق، إذ ذهب كل طرف في طريقه. بيد أن الحكاية تتجدد بعد نحو عقد ونصف العقد، إذ يلتقي العاشقان، مجدداً، ضمن ظروف استثنائية. العاشقة القديمة جاءت لتزور قبر زوجها الميت، غير أن البلدية أزالت القبر ووضعت شاهدة جديدة تشير إلى ميت جديد. والحجة التي تقدم لها هي: «ليُخلِ الموتى القدامى المكان للموتى الجدد». وهي في هذا المزاج تلتقي بعشيقها القديم الذي يعاني، بدوره، من الوحدة والعزلة والخواء. يتحول اللقاء إلى فضاء للحنين والذكريات. يستعرضان، معاً، بنبرة باكية، أحداثاً بعيدة؛ عابقة برائحة الماضي. غير ان اللقاء لم يكن بمقدار اللهفة التي لم تتبدد عبر السنوات. يجلسان على أريكة في غرفة باردة، بينما تزدحم النظرات بالأسئلة الحائرة عن الحب والفراق واللوعة. على صاحب «رقصة الوداع»، هنا، أن يسعف العاشقين القديمين، فيكتب: «نجتاز الحاضر بعيون معصوبة، وأقصى ما نستطيعه هو ان نستشعر ونخمّن ما نعيشه. ونحن لا ندرك ما عشناه ونفهم معناه إلا لاحقاً، عندما تزال العصابة عن اعيننا، ونعيد تفحص الماضي». ويعود كونديرا في فصل لاحق إلى لحظة الانبهار الأول أو «الدهشة العاطفية» الأولى، وكيف ينمو الغرام، ويتصاعد اللهيب في القلوب إلى أن يصبح كل شيء باهتاً. عاشقان خبرا تلك الدهشة، ويريدان إذكاء جذوة الحب عبر تجربة افتراضية. لكن النتائج جاءت مخيبة، فلحظة الانبهار لا تتكرر، ولكونديرا رأي فيه من السخرية بمقدار ما فيه من العمق، إذ يقول: «إن أكبر مصيبة يمكن أن تحل بالرجل هي الزواج السعيد، لا يعود له أمل في الطلاق». شيء مماثل يرد في فصل بعنوان «إدوارد والرب». دفعت الحظوظ إدوارد كي يعمل معلماً في مدينة صغيرة يتعرف فيها إلى فتاة أحلامه أليس. هذه الحسناء لا توليه الاهتمام الكافي، فهي مؤمنة وتواظب على زيارة الكنسية وترى في المغامرات العاطفية خطيئة. إدوارد، ككل عاشق، يراوغ ويبالغ في إظهار الحب وينافق في سبيل كسب ود الفتاة لكنه يخفق. بعد محاولات مضنية تستجيب الفتاة، وتغرم به ليشعر، عندئذ، أن هذا الحب، الذي راح يخبو فجأة، لم يكن ليستحق كل ذلك العناء. «غراميات مرحة» هي من الأعمال الأولى لكونديرا، وهي تعد منطلقاً أساسياً لمشروعه الروائي المتنوع. في هذا الكتاب، ثمة تداخل محكم بين حكايات غريبة وشخصيات مزاجية ومفارقات محببة ومشاهد تتراوح بين الجد والهزل. يعالج كونديرا من خلالها مواضيع ومفاهيم كالحب والاخلاص والصداقة وإشكاليات الهوية والقمع السياسي ومشاكل التواصل، غير أن الثيمة الرئيسة هي الغراميات. غراميات تأتي في إهاب المرح والخفة، بيد ان هذا مجرد قناع هش يكشف عن فلسفة الكاتب، ومقولاته التي تأتي مثقلة بالحكمة والتأمل والفطنة.