لم يتبق للانتخابات البرلمانية العراقية المقبلة سوى أربعة أشهر، وحتى الآن لم يبرز علناً إلى السطح سوى تحالف رئيسي واحد جمع في صفوفه بقايا الائتلافيْن الشيعييْن السابقيْن، وهما ائتلافا كانون الثاني (يناير) وكانون الأول (ديسمبر) 2005، لكن هذا التحالف الانتخابي يبدو قلقاً من المستقبل على رغم كثرة الأحزاب والشخصيات المنضوية تحت لوائه. ومن حقه أن يقلق، فالخريطة السياسية العراقية تغيرت كثيراً خلال السنوات الأربع الماضية وقناعات الناخب هي الأخرى تغيرت، إذ أصبح بإمكانه الآن أن يحكم على الأحزاب من خلال أدائها السابق ولا يصدق الوعود المجردة كما كان سابقاً. لكن التوجهات السياسية أصبحت واضحة المعالم الآن، حتى قبل أن تعلن التحالفات السياسية الأخرى عن نفسها. فقد بات من شبه المؤكد أن رئيس الوزراء نوري المالكي سيدخل الانتخابات بقائمة «ائتلاف دولة القانون» المكوَّن من حزب الدعوة الذي يتزعمه، وحلفاء حزبه الذين يطلقون على أنفسهم «المستقلون» إضافة إلى حلفاء آخرين جدد، إذ سيشرك المالكي معه قوى أخرى، علمانية ودينية، عشائرية ومدنية، سنية وشيعية، كي يضفي على ائتلافه صفة وطنية غير طائفية، وهذا مهم جداً خصوصاً أنه رفض الانضمام إلى «الائتلاف الوطني العراقي» بسبب صبغته الطائفية التي لم تعد قوة جاذبة للناخبين كما كانت عام 2005. سيدخل السيد المالكي الانتخابات المقبلة معتمداً على سجله في الحكم خلال أربع سنوات وسيرفع راية الإنجازات التي حققها في الأمن والاقتصاد والعلاقات الدولية، إضافة إلى إنجازه اتفاقية انسحاب القوات الأميركية من العراق. أما الإخفاقات والصعوبات التي واجهته فسيلقيها على خصومه وشركائه السابقين الذين «لم يتعاونوا معه كي يحقق ما لم يحققه من برنامجه السياسي السابق». أما منافسوه فسوف يرفعون راية إخفاقاته وسلبياته متناسين نصيبهم منها خصوصاً أنهم شركاؤه في الحكم وقد تولوا مناصب أمنية واقتصادية مهمة خلال السنوات الست الماضية، ومنهم من سبقه إلى رئاسة الوزراء ولم يحقق شيئاً يذكر إلا لنفسه. أما القوة الثالثة المهمة في الانتخابات المقبلة فستكون تحالف حركة الوفاق برئاسة إياد علاوي وجبهة الحوار برئاسة صالح المطلق. وعلى رغم أن هذا التحالف لم يعلن بعد، إلا أن هناك إشارات واضحة من الفريقين الى أنه سيحصل خلال الأسابيع المقبلة. وهذا التحالف، إن تحقق، سيكون الأكثر تماسكاً من الناحية السياسية لأنه مكون من فريقين متشابهين في خلفيتهما السياسية ورؤاهما المستقبلية ويقوده زعيمان سياسيان يتمتعان بكاريزما وشعبية ولهما حضورهما السياسي. مثل هذا التحالف أقدر على تحقيق المصالحة الوطنية التي فشل الآخرون حتى الآن في تحقيقها أو رسم الطريق المؤدية إليها. تحالف علاوي - المطلق قادر على استيعاب معظم البعثيين السابقين، وفتح صفحة جديدة في التاريخ السياسي العراقي وهو يمتلك فرصاً كبيرة للفوز، مستفيداً من الإخفاقات التي حصلت خلال الأعوام الخمسة المنصرمة، ومبشراً بحكومة قوية قادرة على طي صفحة الماضي وتحقيق التقارب مع العالم العربي. لكن هذا التحالف سيواجه مشكلة التعامل مع إيران ونفوذها المتنامي في العراق، إيران التي يعاديها طرفا التحالف المحتمل علناً ويتهمانها بالوقوف وراء معظم ما يحصل من مشاكل. لهذا فإن تحالف علاوي - المطلق يحتاج إلى «عقلنة» خطابه السياسي تجاه إيران كي يقدم نفسه كتحالف سياسي يحكم وفق مصالح الشعب وليس أهواء حاكميه. وعلى رغم أن هذا التحالف يبدو طبيعياً لكن المفاجآت السياسية محتملة خصوصاً أن هناك أنباء تتحدث عن تحالف محتمل بين علاوي والائتلاف الشيعي الذي يبحث عن حلفاء أقوياء يمكِّنونه من الفوز في الانتخابات المقبلة بعد أن فقد أهم ورقة انتخابية لديه بعزوف نوري المالكي عنه. فإن انضم علاوي للائتلاف الشيعي فسيكون ذلك بثمن باهظ إذ سيخسر الكثير من مؤيديه ويدفع من تبقى من حلفائه إلى الانشقاق عنه، إذ لا يعقل أن يكون أسامة النجيفي أو عدنان الباججي وميسون الدملوجي جزءاً من الائتلاف، وفي الوقت نفسه ليس هناك مكاسب واضحة يمكنه الحصول عليها من تحالف كهذا يزخر بالمتنافسين على الموقع الأول والثاني والعاشر. أما القوة الرابعة، وهي جبهة التوافق السنية فتعاني من التشظي والضعف منذ فترة. فقد غادرها أحد أهم زعمائها، طارق الهاشمي معلناً تكتلاً انتخابياً جديداً باسم «التجديد» والذي يرى كثيرون أنه لن يتمكن منفرداً من إحداث تأثير كبير في الساحة السياسية. بعض نواب التوافق العلمانيين بدأوا يبحثون عن تحالفات أخرى خارج هذا التكتل ذي السمعة الطائفية، ومجلس الحوار بزعامة خلف العليان لم يكن منسجماً مع بقية أطراف التوافق منذ البداية، خصوصاً مع الحزب الإسلامي، الطرف المهيمن في الكتلة، وقد أبدى تقارباً مع المالكي سابقاً بينما أبقى قنواته مفتوحة مع حليفه السابق صالح المطلق. عدنان الدليمي، الذي يتزعم أحد مكونات هذه الجبهة، «تجمع أهل العراق»، ضعُف كثيراً بسبب خطابه المتشنج واتهام مقربين منه بالتورط في أعمال مسلحة واعترافه علناً أمام مؤتمر إسلامي في أسطنبول بأنه طائفي! الروابط الطائفية ضعفت خلال السنوات الأربع الماضية بعد إدراك الكثير من العراقيين أنها أصبحت مطية يمتطيها الانتهازيون والوصوليون الذين يريدون خدمة أنفسهم فقط وقد أصبح ذلك جلياً خلال الفترة الماضية. وهذا الواقع فرض نفسه على القوى التي أخذت تتخلى الواحدة تلو الأخرى عن خطابها الطائفي. لكن هذا التوجه لم يكن مقنعاً للناخب العراقي، لأنه ليس ممكناً أن يثق بقادة يبدلون جلدهم بحسب الحاجة. فالقوى التي بنت قوتها وقاعدتها على خطاب طائفي مناطقي لا يمكن أن تكون غير ذلك وهي ليست أهلاً للثقة، والأفضل للناخب أن يجرب قوى جديدة. لذا فإن قوى كالائتلاف والتوافق، تمر الآن بأزمة حقيقية تهدد بقاءها. القوى الليبرالية لم تبلوِر حتى الآن كتلة متماسكة، إذ بقيت متفرقة على رغم محاولات عدد من الأحزاب تجميع قواها في ظل تكتل جديد أطلق عليه اسم «الائتلاف الديموقراطي» ضم قوى وشخصيات لها حضورها السياسي كأحمد البراك وضياء الشكرجي وسبهان الملا جياد وآخرين، لكن هذا التكتل يفتقر إلى أهم مقومات البقاء ألا وهو التمويل، فالنزاهة والكفاءة والوضوح السياسي وحدها لا تكفي، وما لم يحصل على التمويل الذي يمكنه من تنظيم نفسه وطرح أفكاره وبرامجه بوضوح عبر دعاية انتخابية تصل بقوة إلى الجماهير، فإن أفضل السبل المتاحة أمامه هو الانضمام إلى تحالف علاوي - المطلق، باعتباره الأقرب إليه فكرياً، أو ائتلاف دولة القانون بقيادة المالكي الذي تبنى خطاباً مدنياً في الانتخابات السابقة. في المنطقة الكردية تيار التغيير بزعامة نيشروان مصطفى، الذي برهن على حضور شعبي مكّنه من تشكيل معارضة فاعلة لحكومة الحزبين الكرديين، الاتحاد الوطني بزعامة جلال طالباني والحزب الديموقراطي بزعامة مسعود البارزاني. وإذا ما تمكن من تحقيق نجاح أكبر في الانتخابات البرلمانية، فإنه سيغير طبيعة التحالفات العربية الكردية المقبلة. ولكون الدستور العراقي يفرض على الأحزاب السياسية الفائزة أن تشكل حكومة وحدة وطنية خلال الفترة البرلمانية المقبلة، تتمثل فيها «مكونات» الشعب العراقي، حتى وإن كانت تتمتع بأكثرية في البرلمان، فإن وجود قائمة التغيير الديموقراطي قد تشكل بديلاً للحزبين الكرديين في تمثيل الأكراد في الحكومة المركزية، خصوصاً أن هذه القائمة أبدت تقارباً مع الحكومة المركزية في الكثير من القضايا. الانتخابات المقبلة ستكون أكثر تعبيراً عن الواقع السياسي العراقي من التي سبقتها، ومع إدراك أوسع للناخب الآن بأن الانتخابات تهدف إلى اختيار الأقدر والأكفأ، فإن الخريطة السياسية العراقية ستبدو مختلفة تماماً بعد 16 كانون الثاني 2010. * كاتب عراقي