حين كانت المحطات الإخبارية العراقية «بخيلة» في تغطية ما يجري في محافظة الأنبار، حيث صراع عسكري دائر بين أطراف مختلفة، من «الجيش» وتنظيم «داعش» ومسلحي القبائل، صارت «كريمة» في المقابل، لبث أغاني التعبئة الحماسية. ومنذ نشوب الصراع، قبل نحو شهرين، انقسمت وسائل الإعلام بشأن الوضع في المدينة، تماماً كما الانقسام في الأوساط السياسية، وظهر صنفان من الإعلام المرئي، رفع الأول شعار دعم القوات المسلحة، لأنها تقاتل من أجل تحقيق الأمن والاستقرار، بينما رفع الآخر شعار «الثورة الأنبارية» ضد قوات تريد شراً بالمدينة. وعلى رغم ان الفجوة شاسعة بين الطرفين المتمثلين بمحطات تلفزيونية، لكن قاسماً مشتركاً جعلهما متشابهين، إلى حد كبير، وكان عبر عودة الأغاني الحماسية إلى واجهة الجميع، وفي شاشاتهم. تعود آخر «فورة» عراقية في كتابة وتلحين وأداء «أغنيات الحرب» إلى ثمانينات القرن العشرين، حين تكبد نظام صدام حسين عناء «التعبئة» في أقصى درجاتها، وظهر «الكورس» العسكري كثيراً وهو يطل عبر الشاشة الوحيدة آنذاك، «القناة العامة». وفي تلك الحقبة، التي شهدت بروز موسيقى الحرب، تحولت «الجمل» الموسيقية إلى ما كان يبدو إشعاراً بساعة صفر المعارك، حتى تردد أن صفوة الجيش يتم استدعاؤهم عبر بث أغنية «لاحت رؤوس الحراب» عبر التلفزيون. ويجد الكاتب والإعلامي، علي حسين، أن تلك الأغنيات «ارتبطت بأشخاص أو أحزاب، وصارت جزءاً أساسياً من الأغنية». وبعد العام 2003، انخفضت وتيرة الإنتاج العسكري للموسيقى، وأخذت الأغاني بعداً إنسانياً، حتى مع رداءة المضمون في اغلب الأحيان. ولكن مع اشتداد أعمال العنف الطائفي، ظهرت أعمال غنائية، انحصر تداولها في نطاق شعبي، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت قريبة من التحريض، من دون أن تجد لها مكاناً في الفضائيات. ومع بدء أزمة الأنبار، أنتجت فضائيات عراقية أناشيد حماسية، توزعت بين محفز للقوات العراقية التي تقاتل في محافظة الأنبار، وبين «ثائرة» لتشجيع ما بات يعرف في أوساط معارضة للحكومة بأنها «الثورة». ووقع الطرفان في فخ «المبالغات»، والعودة إلى «السياق التقليدي» في حشد الدعم والتأييد. وشغل أثير فضائيات مثل «العراقية»، الممولة من المال العام، و»آفاق»، التي يشرف عليها حزب «الدعوة الإسلامية» الحاكم، بأغانٍ تمجد دور الجيش العراقي وتحضه على «قطع جذور الإرهاب»، فيما بثت فضائيات عراقية متخصصة بالموسيقى، كما الحال في «أم سي بي»، ما هو أكثر حماسة ووصل إلى التغني بدور «القائد العام للقوات المسلحة». وفي مشهد مماثل في الشكل، متناقض في المضمون، انشغلت فضائيات أخرى، مناهضة للنظام، مثل قناة «الرافدين»، بإنتاج أعمال موسيقية، كانت أقرب إلى «أهازيج» مصحوبة بأصوات الرصاص والمدافع. ويقول علي حسين، إن «ما يقدم من أغنيات لا يحمل مواصفات الأغنية بمقدار ما هي أهازيج مكتوبة بلغة سمجة، فيما الألحان لا تمت للموسيقى بصلة». الجمهور لدى الطرفين، المتابع لقنوات مؤيدة للنظام والآخر المعارض له، لم يشعر بأي فائدة على مستوى المعلومات. إذ غابت التغطية الحرفية للأحداث، وحضرت بقوة قصائد غنائية محشوة بالكثير من عبارات الحماسة، مثل «نسحق الرؤوس»، «الثأر.. يوم الثأر»، «كلنا معك»، «الصحراء مقبرة». وفي هذا الوقت، كان الحدث الأنباري ساخناً جداً، وهو يزداد تعقيداً وتشابكاً، مع الاشتباكات المسلحة، والوضع الإنساني الذي يزداد سوءاً مع مرور الوقت. وكما يبدو، فإن الإعلام الرسمي أخفق في سد هذا الفراغ المعلوماتي، وأفسح المجال لسده بأغنيات فارغة.