على رغم توافر ليبيا على ثروة نفطية، فإنها لم تتمكن من الاستفادة الكاملة منها، إذ ظلت سلطة الدولة ضعيفة على إدارة موارد الطاقة لما يقرب من أشهر عدة، وهو ما يثير التساؤل عن التغيرات التي شهدتها عملية إعادة بناء الدولة خلال فترة ما بعد اندلاع ثورة فبراير، وهنا تبدو أهمية النظر إلى مسار العمليات السياسية خلال الفترة الانتقالية، باعتبارها من العوامل المؤثرة في مستقبل العلاقات السياسية وأشكالها داخل الدولة. ولدى مناقشة تطور واتجاهات السياسة في ليبيا، لا بد من الأخذ في الاعتبار مدى قدرة السلطات على وضع سياسات تستوعب تطلعات المجتمع تجاه الدولة، إذ إن تطور الأداء خلال الفترة الانتقالية، يمكن التعبير عنه بمؤشرات استقرار المؤسسات وحزمة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فتضافر هذه المعايير يساعد في تحديد مسار واتجاه السياسة في ليبيا. على مستوى أداء الحكومة، ظلت سياسات تكوين الجهاز الإداري للدولة غير واضحة الاتجاه، فخلال العامين الماضيين لم يحدث تطوير للبنية التشريعية بمستوياتها المختلفة، فالقوانين واللوائح المعمول بها ظلت موروثة من النظام السابق، وذلك على مستوى سياسات الأمن والاقتصاد والتشريعات الاجتماعية، فالقوانين واللوائح التي صدرت يمكن تصنيفها في إطار التشريعات الضرورية للفترة الانتقالية وتلك التشريعات المتعلقة بالظروف الطارئة والإصلاحات المحدودة، وهنا يمكن أن نذكر قانون العزل السياسي وقانون انتخاب الهيئة التأسيسية لصوغ الدستور، ويضاف إليهما قانون علاوة العائلة. ولا يختلف الوضع في حالة اللوائح المنظمة لعمل الأجهزة الحكومة، فكثير منها ارتبط بتصحيح بعض الأوضاع الإدارية، لكنه لم يضع إطاراً كلياً لتطوير المؤسسات العامة، فقد ارتبطت هذه الإصلاحات بتعديلات محدودة في سياسات الأجور والرواتب، لكنها لم تضع رؤى أو استراتيجية للانتقال نحو المؤسسية الحديثة وتكوين شبكة جديدة من العلاقات الإدارية تساعد في تكوين الشروط اللازمة للتنمية. وساعد على تفاقم المشكلات، اتجاه الحكومة إلى تبني سياسات اقتصادية انكماشية لا تساعد على الإسراع بمعدلات النمو وبناء المؤسسات أو معالجة المشكلات الاقتصادية، حيث يشير الكثير من تقديرات الإنفاق العام إلى تباطؤ الصرف على بنود الإنفاق في المؤسسات العامة، في شكل يغطي الإنفاق الاستهلاكي ولا يرقى لتغطية الإنفاق على الجوانب الاستثمارية في القطاعات الاقتصادية أو الرأسمال الاجتماعي، وهنا تبدو إشكالية التعامل مع الفوائض المالية المتحققة والتخطيط للموازنة العام خلال السنوات المقبلة. وفي ظل هذه الظروف، تصاعدت حالة القلق والتوتر في ليبيا منذ اندلاع الثورة، فبينما ثار تنازع بين القبائل والأحزاب السياسية حول أولويات المسار السياسي، تصاعدت مطالب الأقليات الإثنية وحوادث الاغتيال الغامضة، وتكمن أهمية هذه القضايا في أنها تثير النقاش حول سياسات بناء الدولة وأجهزتها واستكشاف الأخطار التي تواجه مرحلة الانتقال للمؤسسات الدائمة. تنوع الاغتيال وتنوعت حوادث الاغتيال، بحيث صارت لا تقتصر على الدوافع السياسية وإنما ظهرت أنواع أخرى تتقارب مع تصنيف الخصومات الشخصية، غير أن ثمة حوادث لم تتضح أبعادها، بخاصة تلك التي استهدفت شخصيات عامة لا تنتمي إلى تيارات سياسية وغموض أهداف مرتكبيها. ويلاحظ أن هذه النوعية من الحوادث تكررت خلال هذه الفترة، وأن مسرح العنف لم يقتصر على منطقة دون أخرى. فإلى جانب انتشار حوادث الاغتيال في المنطقة الشرقية، فإنها تزايدت أيضاً على مدى مناطق ساحل ليبيا على البحر المتوسط، ما يشير إلى أن الدولة تواجه معضلات في تقرير السياسة الأمنية، على رغم تفاقم حوادث الاغتيالات، لتظهر أشكال مختلفة من السلطات المقسمة. وفي هذا السياق يمكن تناول أحداث غرغور (طرابلس) في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي التي ستنعكس آثارها على المسار السياسي الانتقالي، في ما يتعلق بانتخابات الهيئة التأسيسية ووضعية المؤتمر الوطني. فمن جهة تواجه الدولة مشكلة دستورية تتعلق بمصير المؤتمر الوطني، كما تواجه مشكلة إعادة ترتيب الأوضاع الأمنية على مستوى البلاد. والتقدم باتجاه حل أو تسوية أي من هذه الملفات يؤثر مباشرة في مسار التحول السياسي، بخاصة في ظل وجود حال استقطاب بين القوى والأطراف المؤيدة للمسار الثوري وتلك التي تتلاقى مصالحها مع النظام السابق ومعارضي الكتائب المسلحة، وهكذا يتخذ الصراع طابعاً سياسياً. وكان من المفترض أن يشكل مؤتمر باريس للأمن في ليبيا (2013) قاطرة مهمة في إعداد السياسة الأمنية، حيث تشكلت رؤية لبناء سياسات الأمن بما فيها إعادة تأهيل المؤسسات وتوفير الخبرات المختلفة والتي تشمل تسهيلات التدريب، غير أن ما توصل إليه اجتماع باريس لقي انتقادات كثيرة من أحزاب سياسية عدة، باعتباره تدخلاً في الشؤون الداخلية، وحتى الوقت الراهن ظل تأثيره محدوداً في سياسات الأمن في ليبيا بحيث يمكن القول إن مساهمات المؤتمر (أصدقاء ليبيا) عملت في شكل غير مؤسسي وغير منتظم. وتكشف هذه الأحداث عمق الأزمة السياسية، إذ يمكن القول إن تفاقم المشكلات الأمنية هو نتيجة لبطء المسار السياسي. فمنذ سقوط النظام السابق في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، ظلت الدولة تواجه مجموعة من المشكلات، لعل أهمها أن المؤسسات الانتقالية تفتقر إلى الحيوية والقدرة على التصدي لمتطلبات إعداد الدولة لمرحلة الانطلاق والبناء. ومنذ تأسيسه، تمكن «المؤتمر الوطني» من التقدم باتجاه استيعاب مطالب الأقليات وصوغ قوانين العزل السياسي والهيئة التأسيسية والعدالة الانتقالية، لكن هذه السياسة واجهت عيبين، البطء في إنجازها، ما أدى إلى بروز مطالب لبعض المكونات الاجتماعية والإثنية لجهة وضع إطار جديد يتيح الفرصة لإعادة تعريف فكرة العزل السياسي وتعديل مسار الفترة الانتقالية. ولكن، مع اقتراب نهاية الفترة الانتقالية، تشهد ليبيا جدلاً حول مقصد المشرع في (م 30) من الإعلان الدستوري، والتي تتعلق بالسلطة التشريعية، فبعض الاتجاهات السياسية والقبلية يذهب إلى انتهاء المؤتمر في 7 شباط (فبراير) 2014، فيما أنها تفيد استمرار المؤتمر حتى الانتهاء من الدستور وانتخاب سلطة تشريعية جديدة. ويلاحظ أن المواقف والآراء السياسية التي ظهرت خلال فترة ما بعد تكوين المؤتمر الوطني، صارت تميل إلى التقليل من الدور السياسي للأحزاب، وانعكس هذا التناول في جانبين، الأول هو ما يتعلق بالسعي لهز مشروعية المؤتمر بسبب هيمنة الأحزاب السياسية عليه، ولذلك انتشرت مطالب بسحب أعضاء الأحزاب في المؤتمر حتى يكون مستقلاً عن التجاذبات الحزبية. أما الجانب الثاني، فهو ما يتعلق بتجميد عمل الأحزاب أو حلها انتظاراً للانتهاء من صوغ الدستور وإعداد قانون ينظم عملها. كما أخذ الهجوم على الأحزاب شكلاً آخر عندما ظهرت دعوات إلى عدم اختيار أعضائها لشغل المناصب السياسية. وهذه المناقشات تعكس جوانب التنافس والصراع ما بين القبائل والأحزاب السياسية. ولعل الإشكالية المهمة هنا تتعلق بمستقبل المؤتمر الوطني، فمن المتوقع أن تكون هذه الجزئية محل صراع عنيف خلال الأيام المقبلة، فالصراع حول المؤتمر لا يرتبط فقط بمستوى أدائه ولكن ظهرت مبادرات تطالب بإعادة تشكيل المؤسسة التشريعية، بحلول 7 شباط 2014 والبدء في مرحلة جديدة وفق أي من المبادرات المطروحة والتي تقترح إجراء تعديلات على دستور 1951 وإسناد السلطة التشريعية إلى الهيئة التأسيسية وانتخاب مجلس تشريعي جديد. وارتبط التعثر التشريعي، بضعف المؤسسية في صناعة القرار، وهي مسؤولية مشتركة ما بين المؤتمر الوطني والحكومة، انعكست آثارها على المسار الانتقالي، إذ عانت المؤسسات الانتقالية من ضعف استقرار المؤسسية، وهو ما يتضح في بعض المؤشرات، كتغيير رئيس المؤتمر مرتين (محمد المقريف ثم نوري أبو سهمين) وكذلك تداول رئيسين للوزارة (مصطفى أبو شاقور وعلي زيدان) خلال فترة لا تتجاوز العام الواحد من عمر هاتين المؤسستين، ويضاف إليها، تسارع معدل تغيير الوزراء والمسؤولين التنفيذيين. ووفق تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول ليبيا (5 أيلول/ سبتمبر 2013) أدى تزايد حدة الاستقطاب السياسي إلى خفض فاعلية المؤسسات وتباعد المواقف السياسية في شأن مستقبل الدولة. فمسيرة قانون العزل عكست الكثير من التناقضات والخلافات بين الأطراف الليبية، حيث يواجه قانون العزل مشكلات في التنفيذ، تتعلق بعدم قدرة «هيئة تطبيق معايير تولي المناصب العامة» على متابعة تطبيق القانون على مستوى الدولة، في ظل تعثر المؤسسات التقليدية. وهنا يمكن تفسير الجدل حول مساعي تغيير الحكومة باعتبارها نتيجة لتباطؤ الأداء خلال الفترة الماضية، وهو ما قد يرتبط بتداخل الصلاحيات ما بين المؤتمر والحكومة. فمنذ انتخاب «أبو سهمين» رئيساً للمؤتمر الوطني صار هناك اتجاه لتعزيز التداخل بين السلطتين، حيث تم تفويض الرئيس الجديد للمؤتمر في اتخاذ قرارات تنفيذية واعتباره قائداً أعلى للجيش، لكنه في فترة لاحقة، سحب التفويض وأسندت المهام التنفيذية لأعضاء الحكومة. وبجانب عدم الوضوح في السياسة التشريعية أو السياسات العامة، حدث نزاع ما بين قطاع واسع داخل المؤتمر وبين الحكومة حول سياسات إدارة الدولة وعمليات صنع القرار، وعلى رغم أن النزاع يستند إلى عوامل موضوعية تتعلق بانخفاض معايير الأداء في سياسة الأمن وتأخر تدشين مرحلة بناء المؤسسات وتزايد الجدل حول مسار الفترة الانتقالية، استمرت الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية من دون حل ولم تُطرح أفكار أو سياسات تتصدى لأزمات الانتقال السياسي. * كاتب مصري