كان حدثاً تاريخياً، يوم افتتاح المؤتمر الدولي في مونترو في 22 الشهر الماضي. ليس أمراً عابراً ان يجلس وفدا النظام السوري و«الائتلاف الوطني السوري» المعارض الى طاولة واحدة حول الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون، وتحت سقف واحد في حضور ممثلي 42 منظمة ودولة، بينها اكثر الدول تأثيراً في العالم، وأمام شاشة تلفزيونية أعدّتها غرفة السيطرة في الأممالمتحدة. أن تجتمع هذه الدول على مائدة واحدة برعاية اميركية - روسية، في ثاني اكبر محفل بعد اجتماعات الهيئة العامة للامم المتحدة، دليل واضح على مآلات «المسألة السورية». أهميتها في صوغ النظام الاقليمي- العالمي الجديد، مثل اهميتها في صوغ العقد الاجتماعي الجديد لعموم سورية والعلاقة بين أحيائها وقراها المتجاورة جغرافياً والمختلفة سياسياً. في مونترو، حققت المعارضة عدداً من النقاط والانتصارات المعنوية -الاعلامية: أولاً، موافقة «الائتلاف» على حضور «جنيف 2» على رغم الولادة المتعثرة لهذا القرار. ثانياً، حضور «الائتلاف» ممثلاً للمعارضة وفشل محاولات موسكو دعوة معارضة «مخترعة» او مضبوطة ب «سقف الوطن» او مساعي بعض «اصدقاء الشعب» الاقليميين لخلق كيان بديل. ثالثاً، سحب الأمين العام للامم المتحدة دعوته ايران لحضور المؤتمر. رابعاً، تسريب تقرير موثق بالصور عن تعذيب لنحو 11 ألف سجين-ضحية عشية انطلاق قطار التسوية من محطة مونترو. وأُضيف الى هذه «الانتصارات المعنوية» تبني معظم المتحدثين في الخطابات الافتتاحية في مونترو الهدف من المفاوضات، وهو تطبيق بيان جنيف الاول الذي نص على تشكيل هيئة حكم انتقالية في سورية. وجاء خطاب رئيس الوفد الحكومي الوزير وليد المعلم بمثابة هدية غير متوقعة للمعارضة وحلفائها. تركيزه على «محاربة الارهاب» وتجاهل بيان جنيف، الذي على أساسة وجّه بان دعوته الخطية الى الحاضرين، وضعا الراعي الروسي في موقع حرج، حاول تداركه بالضغط على وفد الحكومة، في جنيفودمشق، للعودة الى سياق بيان جنيف اساساً ومرجعاً للعملية التفاوضية. لكن يُسجل ان الوفد الحكومي شارك بإسم «الجمهورية العربية السورية» لاول مرة منذ مساعي «سحب الشرعية». خلال ثلاث سنوات من الصراع، كان مضمون الخطاب الرسمي السوري، مبنياً على نقاط واحدة وإن اختلف الناطقون: انها «مؤامرة خارجية» و «تقع في سياق الحرب على الارهاب» من دون الاعتراف عملياً بوجود أزمة سياسية-داخلية، وأن معارضة الخارج هي مجرد «عملاء» وليست لها اي صفة تمثيلية حيث «كلهم تكفيريون» وأن النظام سيتفاوض مع «اسيادهم». وبدا هذا التصور واضحاً في تركيبة الوفد الحكومي التي تصلح للمفاوضات في العلاقات الخارجية-الدولية وليس في حوار داخلي. كما ان الجهد العسكري الحكومي، كان منصبّاً منذ ثلاث سنوات على سحق الثورة. في المقابل، كانت المعارضة تعمل في السنوات الثلاث على «اسقاط النظام بجميع أركانه ورموزه» وترفض «اي حوار او تفاوض مع النظام»، واضعة تنحّي الرئيس بشار الأسد شرطاً مسبقاً لأي عملية تفاوضية. وكانت تراهن على «وهم» التدخل العسكري الخارجي في شكل مباشر او بإقامة مناطق آمنة او عازلة شمالاً او جنوباً. وكانت تطالب ب «تسليح نوعي يقلب ميزان القوى على الارض». وكانت تسعى الى «انتصارات ميدانية» قبل الجلوس الى مائدة التفاوض. كان كل طرف يراهن على فوز بالضربة القاضية. لم يكن مستعداً لنصر بالنقاط. انتهى هذا رمزياً بمجرد جلوسهما على طاولة واحدة. اعترف كل منهما بالآخر. النظام اعترف بالمعارضة حتى انه بقي يقول: «ما يسمى الائتلاف». كما اعترف «الائتلاف» بالآخر وراح يستخدم كلمة «النظام» او «الحكومة» او «الدولة» بدل «عصابة» او «زمرة». صحيح ان الوزير المعلم رفع السقف في خطابه الافتتاحي بالتركيز على «محاربة الارهاب»، وأن رئيس وفد المعارضة احمد الجربا رفع السقف بدعوته للبدء بتشكيل هيئة الحكم الانتقالية و «انشقاق» الوفد عن دمشق... لكن الطرفين، ومن وراءهما في سورية وخارجها، في حال يقين انها بداية العملية التفاوضية. يعرف الوفدان السوريان انه في موازاة المفاوضات الجارية في غرفة واحدة او غرفتين في مقر الاممالمتحدة، هناك مفاوضات بين الاميركيين والروس وبدائرة اوسع بين الدول الخمس الدائمة العضوية وبمروحية اقليمية. كما يدرك الوفدان، انه في موازاة المفاوضات الدولية والاقليمية عن سورية، تجرى مفاوضات مماثلة عن ملفات اخرى في المنطقة تتعلق بالملف النووي الايراني والمفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية. يدرك الطرفان السوريان، انه في موازاة مسار جنيف السياسي، هناك المسار الكيماوي. تداخل هذه الملفات وتشابكها وارتباطها بسقف زمني اولي، هو منتصف العام الجاري الذي يتصادف ايضاً مع انتهاء ولاية الأسد، يفتح الباب أمام المقايضات على حساب الداخل الذي بات هشاً وقابلاً لأجندات الخارج والتفاهمات المفروضة من فوق. لا شك في ان الحل خرج من أيدي السوريين. وكل القول الاميركي-الروسي ان التسوية ستكون ب «قيادة سورية-سورية» وفق ما جاء في بيان جنيف الاول، ما هو إلا محاولة لإرضاء السوريين شكلاً لتغطية التدخلات الهائلة في الشأن السوري. حاول الاميركيون ادخال الروس في مفاوضات حول هيئة الحكم وتشكيل مجلس رئاسي يقوم على مبدأ التوافق. كما حاولوا طرح اسماء عدد من الاشخاص لعضوية مجلس الرئاسة السوري. الى الآن، يتجنب الروس الخوض في مفاوضات ويفضلون ترك الامر الى «السيادة السورية» مع «رفض مبدأ التدخل الخارجي». لكن المتفق عليه روسياً-اميركياً: تشكيل هيئة الحكم ومنع تسلم المتشددين السلطة. هذا الاتفاق، جاء نتيجة قناعة من الدولتين الكبريين، بأن «استمرار» الوضع على هو عليه، يعني قيام منطقتين: واحدة تحت سيطرة النظام تضم الساحل وحمص وحماة ودمشق. وثانية، تضم شمال البلاد وجنوبها، بحيث يتحول قسم من شمال سورية الى مستنقع للإرهابيين الذين يهددون مصالح روسيا ومصالح حكومة نوري المالكي و «حزب الله» حليفي موسكو وطهران وتركيا والاردن واسرائيل حلفاء واشنطن. العنوان الرئيس الذي يتفق عليه الاميركيون والروس هو «التغيير في ظل الاستمرارية»، على ما يقول مسؤول غربي رفيع. المثير ان هذا العنوان، هو ذاته كان شعاراً اطلقه مؤيدون للأسد لبدء عهده خلفاً لوالده، في العام 2000. قبول موسكووواشنطن مبدأ «التغيير في ظل الاستمرارية»، يعني قبول روسيا ب «عدم استمرارية النظام» على ما هو عليه وقبول واشنطن بطي مبدأ «تغيير النظام» و «اجتثاث» مؤسساته. لكنهما تختلفان على كيفية الوصول الى هذه المرحلة وآفاق «التغيير» وقاعدة «الاستمرارية». وهما تركتا الى الطرفين السوريين، النظام والمعارضة، التفاهم على تفاصيل معادلة التغيير-الاستمرارية: اي المؤسسات التي يجب الحفاظ عليها؟ الفرق بين الدولة والنظام؟ كيف يمكن اصلاح اجهزة الامن لتعمل وفق المعايير الدولية من دون انهيارها؟ كيف يمكن اعادة دمج منشقّي الجيش في الجيش الوطني مع الحفاظ على وحدته؟ هل يمكن إبقاء مؤسسات امنية -عسكرية قادرة على محاربة الارهاب، من دون ان تستعمل ورقة تفريخ الارهابيين أداة للبقاء؟ ما هي العلاقة بين العسكر والسياسة؟ تابعية الجيش وتابعية اجهزة الامن؟ العلاقة بين السلطة التشريعية والتنفيذية، بين الحكومة والرئاسة، بين البرلمان والرئاسة؟ اي نظام سياسي في البلاد: رئاسي، برلماني، مختلط؟ مدة ولاية الرئيس؟ التوازن بين اللامركزية والادارات المحلية من جهة وعدم التقسيم من جهة اخرى؟ لا يتوقع احد من القيمين على كواليس مفاوضات جنيف، اختراقاً قريباً. الجميع يتحدث عن أشهر، بل تحدث بعضهم عن سنة او اكثر. دور الاميركيين والروس، إبقاء «ديبلوماسة الدراجة الهوائية». إبقاء العجلات تتحرك. الطرفان الروسي والاميركي اكثر قناعة ب «جنيف 2» باعتباره «عملية تفاوضية» ستأخذ وقتاً. بل ان الوقت بات مطلوباً في ذاته. اذ إن استمرار العملية السياسية، حتى لو لم تؤد الى نتيجة سريعة، يسمح بخلق مسار سياسي موازٍ للعمل العسكري على الارض من دون إلغاء ورقة الميدان العسكري. عملية جنيف تسمح بعودة السياسة الى الملف السوري. عودة المعتدلين السوريين الى النشاط تسمح للنظام والمعارضة، كي ينزل كل منهما بهبوط آمن من سقفه العالي. قد تسفر هذه العملية عن ولادة وإن كانت قيصرية للبديل السياسي، الذي يمكن ان يقنع مؤثرين في النظام وقواعده ومؤثرين في المعارضة بإمكانية «التغيير في ظل الاستمرارية». * صحافي سوري من اسرة «الحياة»