يحدث الكثير في دافوس وراء الكواليس وليس فقط على مستوى البرنامج العلني ل «المنتدى الاقتصادي العالمي» الذي يشارك فيه تقليدياً ما يفوق عن 40 رئيس حكومة ودولة. نجم هذه السنة كان الرئيس الإيراني حسن روحاني. لكن رؤيوية وحيوية الرئيس التنفيذي للمنتدى، البروفسور كلاوس شواب، أخذته الى الجلسات المغلقة البعيدة عن الأضواء في المحطتين السورية والفلسطينية بحثاً عن أفكار تجددية تنعش البحث عن حلول. هناك في تلك الجلسات، يجري العمل الدؤوب ويعمل المشاركون على احتكاك الأدمغة للخروج من حالة توقف تام ولمقاربة جديدة للحل، كما يحدث في المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية. وهناك، في الجلسات المغلقة في دافوس، احتكت أدمغة أكثر من 25 وزيراً ومفكّراً غير حكومي بحثاً عن وسائل دعم لما كان يقوم به ممثل الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية الأخضر الإبراهيمي في جنيف لإطلاق العملية السياسية الانتقالية في سورية. إيران الحاضرة جداً في دافوس، والغائبة عن مونترو وجنيف، احتلت موقعاً مميزاً لكنها أيضاً باتت تحت المجهر بامتياز. المشهد في دافوس للمنتدى الاقتصادي العالمي في دورته ال44 اختلف كثيراً عن السنتين الماضيتين حين ذهب قادة «الاخوان المسلمين» الى جبال الألب بنشوة الانتصار الزائف. حينها، قال لي أحد الذين احتفى بهم المنتدى بشدة، نصف ممازح، «سندمّركم» اشارة الى المدنيين والمعتدلين والعلمانيين. هذه السنة انحسرت النجومية التي أحاطها المنتدى بقيادات «الإخوان» وبات المشاركون منهم مشاركين اعتياديين. فمشى الأمين العام لحزب «الإخوان» في تونس، راشد العنوشي، الأروقة غير محاط بجيش من الحفاوة والاندهاش. كانت تونس التجربة، وتونس نموذج اصلاح الاعوجاج الذي فرضه «الاخوان المسلمون»، هي التي يُحتفى بها عالمياً لأن الدولة المدنية انتصرت على فرض الدين على الدولة. نساء تونس فرضن أنفسهن كشريك وليس ك «مكمّل» للرجل، وأصبح «التكفير» منافياً للقوانين. هكذا، وفي غضون ثلاث سنوات، أثبتت تونس - ومصر أيضاً - انها قادرة على خلع الاستفراد بالسلطة من ذوي الاستبداد بغض النظر عن هويتهم الإيديولوجية. روحاني في دافوس كان نجماً حمل هوية الاعتدال عندما خاطب رجال الأعمال وشركات النفط داعياً الى الاستثمار في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لكن القراءة بين سطور خطابه أمام المنتدى – والذي فات الأكثرية غير الضالعة بالخطاب السياسي الإيراني – كشفت مدى انحسار استقلاليته ازاء أركان الحكم في طهران وهما مرشد الجمهورية علي خامنئي والحرس الثوري بقيادة سليماني. فالرئيس الإيراني حسن روحاني استخدم الخطاب السياسي ذاته الذي يستخدمه الرئيس السوري بشار الأسد في تشخيص الأزمة السورية مختزلاً كامل الأزمة الى «مكافحة الإرهاب». والرئيس الإيراني الذي كان يستخدم سحر ابتسامته العريضة تحدث عن رغبة ايران في «تعميق علاقاتها مع دول الجوار» فذكر تركياوالعراق وباكستان وأفغانستان ودول آسيا الوسطى. ثم قلّص دول مجلس التعاون الخليجي الى «الدول الشاطئية في الخليج الفارسي»، في معرض ذكره للدول المجاورة. والرئيس الإيراني ذهب الى دافوس متباهياً بما توصلت اليه إيران في مجال العلم والتكنولوجيا بما فيها التكنولوجيا النووية. تحدث عن إعادة تنظيم النظام العالمي وعن حقبة جديدة من الأمن الإقليمي. تحدث عن القوى الطاغية المستبدة في المنطقة ونصّب بلده الشريك الوحيد المؤهل لضمان الأمن الاقليمي المهم للأمن الدولي. وزير خارجيته، جواد ظريف، بدأ يفقد بعض سحر ابتسامته العريضة لأن التدقيق في أقواله وأفعاله يضعه الآن تحت المجهر. دعوته الى نظام أمني جديد تشارك فيه دول منطقة الخليج بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي تبدو سطحياً مثال التعاون والاعتدال الى حين وضوح الهدف الأساسي منها، أي، تفكيك مجلس التعاون ونصب ايران القائد الوحيد المؤهل لضمان الأمن الإقليمي. جواد ظريف يحب الكاميرات التلفزيونية ولا يثق بالصحافة المكتوبة – هكذا يقول هو. وهذا مثير للانتباه إذ ان التحريف وارد في انتقاء ال Sound bite أي الجملة التلفزيونية كما هو في انتقاء الجملة المكتوبة. سمعَتُه أنه يحب «الفخفخة» التلفزيونية، كما وصفه أحد الإيرانيين. وفائدته ان «طرافته» جعلته مقرباً من أمثال كاثرين اشتون التي تختتم محادثته بالتأكيد على انها ستتواصل معه كالعادة عبر البريد الإلكتروني وبكلمة «Love». هذه المظاهر مهمة ومفيدة بلا شك، لكن ديبلوماسية الابتسامة العريضة لن تكون كافية لإغراء العالم طالما السياسة الإيرانية تجعل الحكم في طهران شريكاً للطاغية في دمشق، وهذا تماماً ما تراقبه أوساط أميركية فاعلة. الرئيس حسن روحاني ليس مَن يمتلك القرار الإيراني في سورية. «الحرس الثوري» هو صاحب هذا القرار. هناك من يؤكد أنه لو عاد الأمر الى روحاني لانسحب من سورية ولكفّ عن تمويل «حزب الله» في لبنان بالمال والسلاح. والسبب ان أولويات روحاني هي تعافي الاقتصاد عبر رفع العقوبات، والانفتاح على الغرب. فهو يفهم تماماً وطأة السياسات الإيرانية في سورية ولبنان على مسيرته نحو خلاص ايران من العقوبات. يفهم روحاني ان من أهم القوانين الأميركية التي تمنع أية شركة من الاستثمار بأكثر من 20 مليون دولار في إيران فيما ايران في حاجة الى استثمارات نفطية بمبالغ 20 و30 بليون دولار هو قانون داماتو D'amato Bill. هذا القانون ربط بين النشاطات الإرهابية الإيرانية وبين منع الشركات من الاستثمار في ايران. وطالما أن هذا القانون سار، لن تتمكن ايران من بيع الغاز والنفط بالقدر الذي تحتاجه لإنقاذ اقتصادها. وبما ان بيع النفط والغاز بهذا القدر ليس وارداً في الأفق قريباً، بسبب قانون داماتو، ستبقى ايران ضعيفة ومهمّشة مهما كابرت وتظاهرت بالانتصار. للرئيس روحاني، شأنه شأن الرئيس السابق خاتمي وكذلك الرئيس رفسنجاني لدرجة أقل بسبب سجله المالي محبون شعبياً. لكن اليمين المحافظ في طهران يكره ما يمثّله روحاني سيما لجهة الانفتاح على الغرب والرغبة في اصلاح السياسات. صنّاع القرار في الكونغرس الأميركي وكذلك في مجلس الأمن القومي يدعمون سياسة الرئيس باراك أوباما القائمة على تشجيع روحاني وطهران على المضي الى اتفاق نووي مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد المانيا. انما هناك شق السياسة الخارجية الإيرانية – بالذات نحو سورية ولبنانوفلسطين – والذي يربطه صنّاع القرار الأميركي مع رفع العقوبات عن ايران. وهذه سياسة «الحرس الثوري». صنّاع القرار في طهران من جهتهم يستخدمون النفوذ والدور الإيراني في سورية ومع «حزب الله» كأوراق مساومة في المفاوضات مع الولاياتالمتحدة، فالاستقلالية القاطعة ليست واردة مهما أرادت صفوف الاعتدال الانفصال أو الافتراق عن السياسة الإيرانية التي وضعها المرشد و»الحرس الثوري». هناك تيار يدعو الى مساعدة الاعتدال عبر مساعدة روحاني على خلاص الاقتصاد الإيراني من العقوبات. وهذا الرأي يعتقد انه بهذه الوسيلة يتم اضعاف «الحرس الثوري» ومن يدعمه، سيما بعد تفكيك البرنامج النووي الإيراني. واقع الأمر أن التحسين السريع للاقتصاد الإيراني تجاوباً مع الاعتدال الإيراني سيؤدي الى تمكين التطرف الذي يمثله «الحرس الثوري» من تنفيذ مآربه في سورية ولبنانوالعراق. الأفضل إضعاف اليمين المحافظ بدلاً من انقاذه وإعطائه أدوات التعافي الاقتصادي السريع لاستكمال ما يفعله في سورية. انما من الضروري أيضاً ايجاد وسائل تقوية الاعتدال الإيراني اقليمياً ودولياً بدلاً من التشكيك الدائم فيه واعتباره مجرد توزيع أدوار. المجتمعون في إطار ما يسمّى بمجموعة Igwel في دافوس التي تضم قادة دوليين ركّزوا كثيراً على ضرورة التفاهم السعودي – الإيراني لفتح حوار بنّاء وخلاّق بين البلدين. الأمير تركي الفيصل أوضح انه يشارك في الاجتماع بصفة غير حكومية وهو عبّر صراحة عن انعدام الثقة بالأقوال الإيرانية سيما في المسألة السورية. البعض رأى ان ايران حقاً غير جاهزة الآن للتنازلات ان كان في العراق حيث تتمسك برئيس الحكومة نوري المالكي – الذي تعارضه الرياض – أو سواء في شكل سورية ما بعد الأسد. فكل ما تريده طهران لا تريده الرياض، والعكس بالعكس. البعض الآخر رأى ان افتراض استمرار ايران كدولة مهمشة وضعيفة نتيجة عدم تمكنها من بيع النفط والغاز رهان غير حكيم لا يشكل سياسة واعية. فالاستثمار في إضعاف اليمين الإيراني يتطلب التمييز بينه وبين الاعتدال. وهناك خيارات عديدة لتحقيق ذلك عبر تعاون سعودي – ايراني ضروري. سورية تتطلب حواراً وتفاهماً وتعاوناً دولياً يشمل الطرفين السعودي والإيراني. كذلك لبنان في حاجة الى مثل هذا الحوار والتفاهم والتعاون. المصادر المطلعة على القنوات الخلفية للمفاوضات حول الأزمة السورية أفادت ان العمل جار على فكرة بناء هيكلية أمنية تجمع الجيش النظامي و»الجيش الحر» كجزء من هيئة الحكم الانتقالي وذلك كجزء من استراتيجية مواجهة التطرف والإرهاب. مكان الأسد في كامل العملية الانتقالية ما زال يشكل العقدة بسبب مواقف روسياوإيران. ما توضّح بين محطات مونترو وجنيف ودافوس هو بروز قاعدة مشتركة للأكثرية الدولية بضرورة خروج جميع المقاتلين غير السوريين من سورية، وضرورة تنفيذ بيان جنيف الداعي الى انشاء هيئة حكم انتقالي في سورية. هذان الأمران قد يشكّلان عنصرين لقرار في مجلس الأمن يمتحن روسيا والصين ويتحداهما الى عدم استخدام الفيتو المزدوج. وزير الخارجية الأميركي جون كيري حمل من مونترو الى دافوس حملة على بشار الأسد شخصياً، وليس على كامل النظام في دمشق، معتبراً أنه «المغناطيس الذي يجذب الإرهاب الى المنطقة أجمع». كيري حمل أيضاً الى دافوس جهوده التي بذلها في 22 زيارة للعمل مع الفلسطينيين والإسرائيليين نحو «إطار» يضم مبادئ التسوية بينهما والمنتظر الإعلان عنه في الأسبوعين المقبلين. رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري حمل فلسطين الى دافوس وحشد معه كبار رجال الأعمال الفلسطينيين الذين أطلقوا معه مبادرة مميزة. فهم وراء مقاربة جديدة لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية عبر تعاون القطاع الخاص الفلسطيني والعربي من جهة والإسرائيلي من جهة اخرى. عنوان المبادرة هو «كسر حالة التعطيل التام» ومهدها أتى عبر القنوات الخلفية للمنتدى الاقتصادي العالمي. الأمير تركي الفيصل حمل الى دافوس «المبادرة العربية للسلام» مع اسرائيل ليؤكد ان الجانب العربي متمسك بمبادرته وجاهز لتطبيقها وان الكرة في الملعب الإسرائيلي. هذه المبادرة الاستراتيجية للعام 2002 وافقت عليها 22 دولة عربية و57 دولة اسلامية. تجاهلتها اسرائيل رغم مما تنطوي عليه من استعداد عربي وإسلامي للتطبيع والسلام معها مقابل انهاء الاحتلال. والسؤال المطروح على اسرائيل هو: لماذا؟ وماذا تريد؟ وماذا تنتظر إذا كانت تريد السلام؟ دافوس ليست محطة سنوية فحسب. انها عملية مستمرة لاستنباط الأفكار والتفكير خارج الصندوق والعمل الدؤوب نحو مقاربات جديدة. فالشكر للبروفسور شواب على منبر الرؤيوية الذي يقدمه للعالم.